أثر «الحاجة الشرعية» في عقود المعاوضات
أحمد الشافعي (أحمد ناجي محمود ) باحث في الفقه وأصوله الجولة الأولى: أثر الحاجة في إجازة العقود المالية:…
أحمد الشافعي (أحمد ناجي محمود )
باحث في الفقه وأصوله
الجولة الأولى: أثر الحاجة في إجازة العقود المالية:
قال تعالى: )وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(، قال ابن العربي: «فيها تسع مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية، من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات يُنبني عليها، وهي أربعة: هذه الآية، وقوله تعالى: )وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(، وأحاديث الغرر، واعتبار المقاصد والمصالح، وقد نبهنا على ذلك في مسائل الفروع».
فلا غرو أن تهتم الشريعة الإسلامية بالمال فإنه قوام حياة الناس، فدعت إلى المحافظة عليه وجودًا وعدمًا، وأقرت لذلك عددًا من الأصول العامة والمباديء المالية، واقتنعت بأهميتها في تحقيق مقاصدها من إصلاح الإنسان وعمارة الأرض، ومن أهمها: عدم أكل أموال الناس بالباطل، وتجنب الربا، والغرر، وإضاعة المال وإتلافه، وكل ما يحدث ضغينة بين المسلمين.
غير أن الشريعة مراعاة لحاجات الإنسان وتقلبات حياته أباحتبعض المحرمات، إقامةً لمعاملات الناس، وحفظًا لأموالهم، وإنماءً لها.
ونبدأ هنا جولة تفقدية لهذا المعنى في مضامين فقه المعاملات، ويتضح لنا ما يلي:
أولاً: العقود معاوضات وتبرعات؛ وقد أباح الله لنا سبحانه المعاوضات؛ ليحصل الناس بها مصالحهم، إما بالنقود وإما بالعروض. وأباح التبرعات؛لأنها مدعاة الرِفق والإحسان.
ثانيًا: أكثر ما يُبطل العقود: الغرر، والجهالة، والضرر، والأخير أقل ورودًا.
والغرر أكثرها حركة في المعاملات، ولا يكاد عقد يَسْلم منه، ومع ذلك تعاملت الشريعة معه بمرونة شديدة مراعية حاجات الناس وتعاملهم، وعاداتهم المستقرة، وقد لخّص الأبياري قاعدة نفيسة في هذا المعنى، فقال:
«ولننبه ههنا على أصل من الفقه، وذلك أن نفي جميع الغرر في العقود، لا يُقدر عليه، وهو يُضيِّق
أبواب المعاملات، ويحسم جهات المعاوضات. ونفي الغرر إنما يُشترط تكميلًا للقواعد، وإزالةً لما يُتوقع من خصام ونزاع، فهو إذا من التكميلات، والتكميلات إنما تراعَى إذا لم يُفضِ اعتبارها إلى إبطال المهمات، فإذا أفضى إلى ذلك، وجب الإعراض عن التتمة، تحصيلًا للأمر المهم. ولذلك نظائر من الشريعة». ([1])
فأباحت الشريعة: العارية، والإجارة، والسلم، والاستصناع، والحوالة، والوكالة، والمساقاة، والقراض، وكثيرًا غيرها، رفعًا للحرج، والضرر، ولتعامل الناس بها، وارتفاقًا بهم، فأقرت الشريعة ما فيه مصلحة لهم، على ما في هذه المعاملات من غرر، أو جهالة، أو بيع معدوم. ([2])
ثالثًا: وبرغم حرمة الربا، وشدته إلا أن الشريعة فرّقت بين نوعين منه، فربا النسيئة أشد إثمًا وأقطع حُرمة من ربا الفضل، فالأول محرمٌ لذاته أو محرم تحريم المقاصد، والثاني لغيره، أو تحريم الوسائل، لذلك أجازت الشريعة بيع العرايا لحاجة الناس، لأن ما فيه ربا فضل. ([3])
رابعًا: وأباحت ما يقع من عمل الأبدان مما يَعْسِر ضبط الغرر فيه أو تجاوزه، كما في إجارة الأبدان، والمساقاة، والجعل، والقراض، والمزارعة، والمغارسة؛ فإن من مقاصد الشريعة فيها: تكثير المعاملات، مما دعا لاغتفار الغرر للحاجة، وهو ما لم تغتفره في المعاملات التعاوضية.
كما أن بهذه المعاملات ضررًا محتملاً؛ يلحق العامل في أحوال كثيرة، كما في المساقاة أو المزارعة؛
فقد يعمل العامل ولا يُثمر الشجر، أو لا يحصل المجعول له المجاعَلَ عليه، أو لا يُنتج القراض ربحًا.([4])
خامسًا: ومن مراعاتها للحاجة؛ تجويزها العقود الجائزة؛ علّل ابن نجيم ذلك بقوله: «لأن لزومها شاق؛ فتكون سببًا لعدم تعاطيها ولزوم اللازمة، وإلا لم يستقر بيع ولا غيره، ووقفنا عزل الوكيل على علمه دفعا للحرج عنه، وكذا عزل القاضي وصاحب وظيفته». ([5])
سادسًا: إلغاء بعض التصرفات للحاجة، كما في الاحتكار والتسعير. ([6])
الحاجة وعقود التبرعات:
ويختلف أثر الحاجة تبعا لنوع العقد؛ ففي عقود التبرعات تأخذ الحاجة أثرًا أعمق وحظًا أوفر؛ فالشريعة رعت الغرض الإنساني من التآخي والمعروف، كما رعت رفع الحرج عنهم، وذلك:
- كتصحيح الوصية بالمعدوم([7])، وصحة الوصية بما لا يقدر على تسليمه.([8])
- إيجاب التبرع للحاجة: كما نهاهم النبي ﷺعنادِّخارلحومالأضاحيلأجلالدافةالتيدفّتْ([9])؛ ليطعموا الجياع؛ لأن إطعامهم واجب، كما قال ابن تيمية. ([10])
الحاجة في عقود المعاوضات:
ويتضح مراعاة الحاجة في مراحل العقد، وفي أركانه، فيما يأتي: ([11])
أولاً: في الرضا وإنشاء العقود:
- الأصل في العقود أن تكون باللفظ. لكن إذا تعذّر ذلك نشأ بغيره كالكتابة، والإشارة المفهمة، وكالفعل كما في المعاطاة، وبكل ما يدل على الرضا وتعارَفه الناس.([12])
وللباحث بحث عن اعتبار الرموز التعبيرية في انعقاد العقود المالية، وقد توصل إلى جواز استعمالها واعتبارها في العقود المالية.
- كما أنها تصح بالوكيل للحاجة، وبالولي حِفاظًا على مصالح الصغير. ([13])
ثانيًا: تصحيح محل العقد:
- مما يشترط في المحل أن يكون موجودًا غير معدوم؛ دفعًا للتخاصم والتنازع، وفي عقد السلم: فإن المحل معدوم، كما أن الإجارة ترد على منفعة معدومة حالاً وإن كانت ستُستوفى مآلاً، ومع ذلك؛ فإن الشريعة اقتنعت بتجويزهما لمسيس الحاجة. ([14])
- ومن شروط المحل أن يكون معلومًا؛ ومع ذلك جاز ما اشتدت مشقة معرفته، كما في الجَوز والبندق، والمقاثي، وما عُرف بالمغيّبات في الأرض: كالبطاطس والجزر، وأشباههما. ([15])
الجولة الثانية: أثر الحاجة في تصحيح العقود الفاسدة:
العقد الصحيح هو الذي استوفى أركانه وشروطه أو هو الذي استوفى مقاصد الشريعة منه، فكأن موافقا للمقصود منه بذاته، بتعبير الطاهر بن عاشور([16])، والفاسد بخلافه.
وقد يقع الإغضاء عن خللٍ يسير ترجيحًا لمصلحة تقرير العقود، كالبيوع الفاسدة إذا طرأ عليها بعض المفوّتات المقررة في الفقه. ([17])
ولأن الحاجة أقل قوة من الضرورة، وأضعف في مركزها التشريعي، فإنها تؤثر في تصحيح العقود، لكن لا بقدر الضرورة، فإن صححت الضرورة العقد الذي وقع فيه خلل أصلي أو تبعي، فإن الحاجة تصحح ما كان فيه الخلل تابعًا أو إضافيًا. ([18])
ومن الجدير الإلفات إلى أن العقد الذي تصححه الحاجة هو العقد الذي لحق الفساد بعض أوصافه، لا الذي بُني على الفساد، فإن الحاجة لا تقوى على تصحيحه. ([19])
([1]) الأبياري، علي بن إسماعيل، التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه، المحقق: د. علي بن عبد الرحمن بسام الجزائري، (الكويت: دار الضياء -طبعة خاصة بوزارة الأوقاف -دولة قطر، 2013م)، ط1، ج3، ص 403.
ثم قال: «فكل تتمة أفضى اعتبارها إلى إبطال الأصل المقرر، وجب الإعراض عنها. إذ في مراعاتها إبطال أصلها، وفي إبطال أصلها رفعها، وقاعدة الشرع ضرورية، لا غنية للخلق عنها. فلو اشترط انحسام الغرر بالكلية، لتعطلت القاعدة على الضرورة، فوجبت المسامحة في الأغرار التي لا انفكاك عنها، إذ يشق فيها، فسومح بيسير الأغرار، لضيق الاحتراز، مع حقارة ما يفوت، أو يحصل من الأغراض، ولا يسمح بكثرتها، إذ ليس هو في محل الضرورة بحال، ولعظيم ما يترتب عليه من الأخطار».
([2]) قال ابن نجيم: «فَسُهِّل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير بطريق الإجارة، والإعارة والقرض. وبالاستعانة بالغير: وكالةً وإيداعًا وشركة ومضاربة ومساقاة. وبالاستيفاء من غير المديون: حوالة، وبالتوثيق على الدَّين: بِرهان وكفيل، ولو بالنفس. وبإسقاط بعض الدَّين: صلحا، أو كله: إبراءً.». الأشباه، ص 68.
([3]) ابن بيه، الفرق بين الضرورة والحاجة، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، مج8، ع1، 1991م، ص 127.
([4]) ابن عاشور، المقاصد، ج3، ص495.
([5]) ابن نجيم، الأشباه، ص 68.
([6]) الزحيلي، محمد، القواعد الفقهية على المذاهب، ج1، ص 234.
([7]) انظر: الزيلعي، تبيين الحقائق، ج6، ص203، ابن عابدين، رد المحتار، ج6، ص 654، الخرشي، شرح مختصر خليل، ج8، ص169، الهيتمي، نهاية المحتاج، ج6، ص50، ابن قدامه، الشرح الكبير، ومعه المقنع والانصاف، ج 17، ص342. وما عند الحنفية: تصح الوصية بثمرة بستانه في المستقبل، ولا تصح بما تلد أغنامه، أو بما تحمل جاريته.
([8]) انظر: تبيين الحقائق، سابق، ج6، ص186، الدر المختار، ج6، ص658، مواهب الجليل، ج6، ص374، نهاية المحتاج، ج6، ص50، روضة الطالبين، ج6 ، ص117، حاشية البجيرمي، ج3، ص310، المقنع والشرح الكبير،ج17، ص342، المحرر في الفقه، ج1، ص386.
([9]) متفق عليه: قال النبي ﷺ: «من ضحّى منكم فلا يُصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء» فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: «كلوا وأطعموا وادَّخروا، فان ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها»، البخاري، باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي، ج7، ص103، 5569. ومسلم، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي. ج3، ص1562، ح 1973.
([10]) ابن تيمية، القواعد النورانية، ص 247.
([11]) استقرى جمهور علماء الشريعة أركانا للعقد، وهي: الصيغة، والعاقدان، والمعقود عليه. فلا يتحقق العقد إلا بوجود أركانه الثلاثة، وهذا عند الجمهور، وقد اقتصر الأحناف على: الإيجاب والقبول كركن للعقد. ابن عابدين، رد المحتار، ج4، ص504. الخراشي، الشرح الكبير، ج3، ص2. الشربيني، مغني المحتاج، ج2، ص323. البهوتي، كشاف القناع، ج3، ص146.
([12]) انظر: الصنعاني، بدائع الصنائع، ج3، ص109. الخراشي، الشرح الكبير، ج5، ص5. النووي، المجموع، ج9، ص167. مغني المحتاج، سابق، ج2، ص332. ابن قدامه، المغني، ج7، ص239.
([13]) انظر: الدر المحتار، ج3، ص84. الشرح الكبير، ج3، ص 337. المجموع، ج14، ص98. المغني، ج5، ص68.
([14]) الجويني، البرهان، ج، ص. العز، سابق، ج2، ص150.
([15]) الصنعاني، بدائع الصنائع، ج، ص. العز، سابق، ج2، 177. الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص17. الخراشي، الشرح الكبير، ج3، 18. النووي، المجموع، ج9، ص300. ابن القيم، إعلام الموقعين، ج1، 235.
([16]) ابن عاشور، المقاصد، ج3، ص490.
([17]) ابن عاشور، السابق. ونقل عنه المحقق: « المفوتات للبيوع الفاسدة هي حوالة الأسواق في غير الرباع، وتلف عين المبيع أو نقصانها، وتعلق حق الغير به، وطول المدة السنين نحو العشرين في الشجر».