|

أكل الولي من مال اليتيم: أحكام وضوابط

ورد في القرآن الكريم وعيد شديد على أكل أموال اليتامى ظلماً وعدواناً، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ…

ورد في القرآن الكريم وعيد شديد على أكل أموال اليتامى ظلماً وعدواناً، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً اِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء:10]، ومعنى الأكل في الآية هو التصرف كما بيّنه الإمام الرازي رحمه الله، حين قال: “واعلم أنّه تعالى وإن ذكر الأكل فالمراد به التصرّف، لأنّ أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرّفات المهلكة لتلك الأموال المحرّمة، والدليل عليه أنّ في المال ما لا يصحّ أن يُؤكل، فثبت أنّ المراد به التصرّف، وإنّما ذكر الأكل لأنّه معظم ما يقع لأجله التصرّف”([1]).

وقد اتفق العلماء على جواز خلط الوليّ ماله بمال اليتيم([2])، ومستندهم في ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلِ اِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمُ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة:220]، ففيها دلالة على جواز خلط الوليّ ماله بمال يتيمه، وجواز التصرّف فيه إذا كان ذلك صلاحاً، ومستندهم في ذلك أيضاً حديث ابن عبّاس أنّه قال: “لمّا أنزل الله : ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ و﴿إِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾ الآية، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل من طعامه فيُحبس له حتى يأكلَه أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ، فأنزل الله : ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلِ اِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه”([3]).

لكنّ العلماء يشترطون في هذه الخلطة في مال اليتيم أن يكون فيها حظٌّ لليتيم وصلاحٌ له، وإلاّ فإنّها تمنع صوناً للمال، واعتداداً بالأصل الشرعيّ العام في الاحتياط لمال اليتيم، حيث قالوا: “وللوليّ خلط ماله بمال الصبيّ ومؤاكلته للإرفاق، حيث كان للصبيّ فيه حظٌّ، ويظهر ضبطه بأن تكون كلفته مع الاجتماع أقلّ منها مع الانفراد”([4]).

يقول الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: “ولا يخالطه في نفقة إلاّ أن يكون له الفضل على اليتيم، ويتحرّى جهده فعساه أن ينجو، فإن نجا فاز بأجر عظيم، والله يعلم المفسد من المصلح، فإن كان اليتيم في حجر الوصيّ صدق في الإنفاق عليه إذا أتى بما يشبه، فإن زاد على ما يشبه لم يُقبل منه، وحسب له ما يشبه، وغرم الباقي لأنّه فيه كالمعتدي”([5]).

ويقول الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله: “ومتى كان خلطُ مال اليتيم أرفقَ به، وألينَ في الخبز وأمكنَ في حصول الأدم فهو أولى، وإن كان إفرادُه أرفقَ به أفرده”([6]).

كما اتفق العلماء على أنّ الوليّ الغنيّ لا يجوز له أن يأكل من مال اليتيم شيئاً، ودليلهم في ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ [النساء:6]، لكنّهم اختلفوا في الوصيّ الفقير هل يجوز له الأكل من مال يتيمه أم لا؟

فذهب الحنفية والظاهرية إلى أنّ الوليّ الفقير كالوليّ الغنيّ لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئاً، مستدلّين بالآيات التي تحظر أكل مال اليتيم، وتتوعّد آكله بنار جهنّم، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء:34]، وقوله أيضاً: ﴿إِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً اِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء:10]، حيث قالوا: وهذه الآيُ محكمةٌ حاظرةٌ لمال اليتيم على وليّه في حال الغنى والفقر، وحملوا الآيات الآمرة بالأكل بالمعروف على أكل الوليّ من مال نفسه بالمعروف، لئلاّ يحتاج إلى مال اليتيم، وقالوا بأنّها من المتشابه،ىوالله تعالى أمرنا بردّه إلى المحكم، ونهانا عن اتباع المتشابه، من غير ردٍّ إلى المحكم منها، كما ذهبوا إلى القول بنسخها([7]).

قال ابن حزم رحمه الله: “ولا يحلّ للوصيّ أن يأكل مِن مال مَن إلى نظره مطارفةً، لكن إن احتاج استأجره له الحاكم بأجرة مِثْلِ عمله لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، [الأنعام:152]، فإن ذكروا قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:6]، قلنا: قد قال بعض السلف: إنّ هذا الأكل المأمور به إنّما هو في مال نفسه لا في مال اليتيم وهو الأظهر”([8]).

وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، واختاره ابن العربيّ وصحّحه القرطبيّ، إلى أنّه يجوز للوليّ إذا كان محتاجاً أن يأخذ من مال اليتيم الأقلّ من أجرة مثله أو مقدار كفايته، بشرط ألاّ يكون هذا الوليّ هو السلطان أو مقدّمه، لأنّ لهما أجراً في بيت المال([9])، واستدلّ هؤلاء بقوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:6]، ووجه الدلالة أنّ الله تعالى أمر الغنيَّ بأن يستعفف عن مال اليتيم، والفقيرَ أن يأكل بالمعروف، وبحديث عبد الله بن عمرو أنّ رجلاً أتى النبيَّ فقال: إنّي فقيرٌ ليس لي شيءٌ ولي يتيمٌ، فقال: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلاَ مُبَادِرٍ وَلاَ مُتَأَثِّلٍ»([10])، وأيضا بما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت في قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:6]: “نزلت في والي مال اليتيم إذا كان فقيراً، أنّه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف”، وفي لفظ مسلم: “أُنزلت في والي مال اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه، إذا كان محتاجاً أن يأكل منه”([11]).

وردّ الإمام ابن العربيّ رحمه الله على من قال بنسخ آية: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:6]، بآية: ﴿إِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً اِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء:10]، حيث قال: “أمّا من قال إنّه منسوخٌ فهو بعيدٌ لا أرضاه، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهو الجائز الحسن، وقال: ﴿إِنَّ الذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾، فكيف ينسخ الظلم المعروف؟ بل هو تأكيد له في التجويز، لأنّه خارجٌ عنه مغايرٌ له، وإذا كان المباح غير المحظور لم يصحّ دعوى نسخٍ فيه، وهذا أبينُ من الإطناب”([12]).

وقد نسب الإمام ابن العربيّ إلى الإمام مالك رحمه الله جواز شرب الوصيّ من اللبن وأكله من الثمر فقط، وذلك لأنّه أمرٌ متعارفٌ عليه بين الخلق متسامح فيه([13])، وقيّد ابن عبد البرّ هذا الجواز بأن يكون الوليُّ يخدم البهائم والأشجار وينفعه فيها، أو يكون ما يأكله ويشربه قليلا لا قيمة له، أو يكون بموضع لا ثمن فيه([14]).

والذي يظهر من خلال هذه المناقشة الموجزة أنّ قول الجمهور هو الأظهر في المسألة، لقوّة ما اعتمدوا عليه من أدلّة، في مقابل ما ذكره الحنفية والظاهرية من أدلة لا تقوى على ردّ أدلة الجمهور وخاصة حديث عائشة في الصحيحين، وبناءً على هذا الرأي فإنّه لا يجب على الوليّ الفقير ضمان أو تعويض ما أكله من مال يتيمه، في حالة ما إذا صار غنيًّا؛ “لأنّه لو وجب عليه إذا أيسر لكان واجباً في الذمّة قبل اليسار، فإنّ اليسار ليس بسبب للوجوب، فإذا لم يجب بالسبب الذي هو الأكل لم يجب بعده، وفارق المضطرّ فإنّ العوض واجب عليه في ذمّته، ولأنّه لم يأكله عوضاً عن شيءٍ، وهذا بخلافه”([15]).

  1. (1) الرازي، فخر الدين، مفاتيح الغيب من القرآن الكريم، 9/138.
  2. (2) انظر: ابن العربيّ، أحكام القرآن، 1/304، والجصاص، أحكام القرآن، 2/13، والكيا الهراسي، أحكام القرآن، 1/98.
  3. (3) أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، رقم: 2873، والنسائي، كتاب الوصايا، رقم: 3669.
  4. (4) الرملي، شمس الدين، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 4/380.
  5. (5) ابن عبد البر، الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، 2/1034.
  6. (6) ابن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، 4/317.
  7. (7) انظر: الجصاص، أحكام القرآن، 2/361.
  8. (8) ابن حزم، المحلّى، 8/325.
  9. (9) انظر: الرملي، نهاية المحتاج، 4/380، والشربيني، مغني المحتاج، 2/176، والبهوتي، كشف القناع، 3/455، وابن قدامة، المغني، 4/319، وابن العربي، أحكام القرآن، 2/178-179، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 5/41.
  10. (10) أخرجه أبو داود، كتاب الوصايا، رقم: 2874، والنسائي، كتاب الوصايا، رقم: 3668، وابن ماجة، كتاب الوصايا، رقم: 2718.
  11. (11) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم: 4299، ومسلم، كتاب التفسير، رقم: 7718.
  12. (12) ابن العربي، أحكام القرآن، 2/178.
  13. (13) المرجع نفسه.
  14. (14) ابن عبد البرّ، الكافي، 2/1034.
  15. (15) ابن قدامة، المغني، 4/319.

اترك تعليقاً