استثمار مقاصد الوقف العام في جلب التنمية ودفع الفقر
استثمار مقاصد الوقف العام في جلب التنمية ودفع الفقر عبد الله نوري باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ…
استثمار مقاصد الوقف العام في جلب التنمية ودفع الفقر
عبد الله نوري
باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة وهران 1، الجزائر
مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية لدى نادي الاقتصاد الإسلامي، جامعة الكويت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن الدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كلّ الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة، وأن من يقرأ تاريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات (مثل خيول الجهاد) التي لم تعد صالحة للاستعمال فحينئذٍ تُحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليها من هذه الأوقاف… إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا تعاقب فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف.
لذلك فإعادة دور الوقف تعني إعادة دور كبير للجانب الطوعي المؤسس لخدمة الحضارة والتقدم ولخدمة تنمية المجتمع وتطويره، ورأيت أنه من الضروري تفعيل مقاصد الوقف -التي كشف عنها في مقال سابق- من أجل جلب التنمية ودفع الفقر.
تنزيل مقاصد الوقف
وهنا نبين دور المقاصد في تحقيق الوقف وتفعيله، وكيف يمكن أن تشكل المقاصد وعاء شرعيا في قيام الوقف المعاصر والحضاري الذي يضيف الخير الكثير إلى المسلمين والناس، والذي تتحقق معه الانطلاقة الحضارية الكبرى الجديدة لأمة الإسلام ودوله وشعوبه.
ويحصل هذا الدور بتقرير القواعد والمسالك المقاصدية التي يعتمد عليها في تحقيق الوقف وتطويره وتفعيله وإدامته وتعديته وتعميمه، وفي وضع أنظمته (قوانينه) وآلياته وإجراءاته الإدارية والرقابية والتنموية والقضائية والحضارية بوجه عام.
وأهم هذه القواعد والمسالك:
- مرجعية المقاصد للوقف بوجه عام
أي اعتبار كون المقاصد إطارا شرعيا للوقف، من حيث إرجاع مسائله وقضاياه ونوازله إلى قواعد المقاصد ووسائلها ومسالكها. ويتأسس هذا على مبدأ تعليل الأحكام وتقصيدها ونوطها بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، وكونها مشروعة للمصالح في الدارين. وهذا أمر معلوم، وهو بمثابة المنطلق الأساس والإطار الجامع للوقف ولغيره. ونحن إذ نقرر هذه المقاصد، نقرر حقيقتها الشرعية وضوابطها الأساسية، حـتى لا يُفهم أننا نقرر للاستصلاح بالتشهي أو التعليل بالتحكم.[1]
- اعتبار قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقا
وهذا بمثابة التفصيل النسبي لما سبق، إذ المقاصد تعنى بجلب المصالح ودرء المفاسد، أو أنها تعنى – بالاختصار المفيد- بجلب المصالح فقط، لأن جلب المصالح متضمن لدرء المفاسد. ومحك هذا يتجلى بالخصوص في مساري الفهم والتنزيل، أي فهم مجموعة أحكام الوقف في ضوء مصالحه المجتلبة ومفاسدها المبتعدة، وتنزيل هذه الأحكام بناء على هذه المصالح المعتبرة المجلوبة، وعلى المفاسد المتروكة المبعدة.
والنظر المصلحي المقاصدي في الوقف بين وجلي، ولاسيما في كثير من تطبيقاته المعاصرة وصيغه الحديثة.
- اعتبار قاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد)
والوسائل هي ميدان رحب لجريان أعمال الوقف ومنجزاته وصيغه وصوره، والمراد: اختيار أفضل الوسائل لأفضل المقاصد، ومن هنا تحدث أهل العلم عن صيغ استثمار أموال الوقف بما يكثر العوائد ويعمم النفع ويقوي الأصول، وتحدثوا عن قضايا الاستبدال والحوكمة وأوقاف النقود والحقوق المعنوية، وغير ذلك مما تجلت فيه تطبيقات مهمة لقاعدة الوسائل ودورانها مع مقاصدها، وجودا وعدما، وجوبا وندبا، وتعددا وتفردا.
- اعتبار قاعدة مآلات الأفعال
والذرائع سدا وفتحا: ومجال هذا –كذلك- رحب وفسيح، وذلك بتقدير نتائج الأعمال الوقفية، والنظر في مآلاتها بحسب عودها بالنفع وتعديته وتعميمه وإدامته على الموقوف عليهم، وعلى ازدهار الاقتصاد والتنمية، وتقدم المجتمع والدولة.
- اعتبار الموازنة بين المقاصد، جمعا وترجيحا
وهذا مجاله دقة نظر المجتهد، فردا ومؤسسة، وعمق التصور المتعلق بصميم الأعمال الوقفية، وارتباطها بتصور قواعدها ومقاصدها ومدركاتها، من أجل تحقيق العمل الوقفي الذي يُعد مرادا الله تعالى، يقينا أو ظنا غالبا.
- المفردات الوقفية المعاصرة ومقاصدها الشرعية[2]
ظهرت بعض المفردات الوقفية في العصر الحالي، وهي تعبر عن صور جديدة وصيغ مستحدثة لعمل الوقف وأدائه. وتعود هذه المفردات إلى تحقيق مقاصد الوقف بوجه عام، إذا اعتبرت فيها ضوابطها المشروعة وشروطها المحددة.
غير أن يمكن تخصيصها ببعض تعبيرات المقاصد، بالنظر إلى مجالها ودورها، وبـالنظر إلى أثر ذلك التعبير في تحقيق المقاصد المقررة للوقف، ابتداء وتأسيسا.
ومن هذه المفردات:
أولا: استقلالية أعيان الوقف، وحمايتها الجنائية، واستبدالها وإلغائها
ومقصد ذلك هو تقوية كيان هذه الأعيان وضمان انتظامها ودوام عطائها، وعدم تعريضها للابتـزاز والتطويع والتلاعب.
ثانيا: الوقف الخدمي
ومقصد ذلك: مواكبة التطور العصري في مجال إسداء الخـدمات المختلفة التي لها أثرها على مستوى تطوير الاقتصاديات الوطنية والمحلية والعالمية، وعلى مستوى تنمية العلاقات الداخلية والخارجية، في مجال العلوم والمعلومات والإدارة والتبادل التجاري واستقرار الأمن والسلم، وسد الحاجيات المختلفة، ولهذا كله أثره في جلب مصالح الناس ودفع الفساد عنهم.
ثالثا: الوقف الإنمائي والاستثماري
أو الصيغ التنموية الحديثة للوقف، أو اقتصـاديات الوقف، ومقصد هذا: تعظيم أنساق التنمية لتواكب أنساق الطلب والحاجة، ولتدرأ الفاقة والخصاصة المؤدية إلى الضعف والمرض والفقر والأمية والتخلف في عـدة مجالات، وقد يقود هذا التخلف والتقهقر إلى الهيمنة الأجنبية والاستعمار الخارجي والوقوع في دائرة التبعية والاحتكام إلى الآخر المخالف في الدين واللغة والحضارة والمدنية.
رابعا: الوقف الحضاري
ومقصد هذا: إبراز الوجه الحضاري للوقف بصفة خاصة، وللإسلام بصفة عامة، ومعنى هذا: أن يظل الوقف مسخرا لتقرير الإسهام الحضاري العالمي والإنساني للمسلمين، سواء من خلال الإسهام في المجهود البشري في بناء الأمن وإعمار الأرض وتكثير المنتوج، أو من خلال تخصيص بعض الأوقاف العالمية التي تخدم التحضر وتبني الحضارة.
خامسا: الإصلاح الإداري والتشريعي للوقف
ومقصده تعصير إدارة الوقف وتحديثها بما يحقق الأهداف المرسومة للوقف، وفقا للرؤية الشرعية والحاجة الإنسانية، ومـن مستلزمات ذلك، وضع التشريعات اللازمة التي تكفل تحقيق الإدارة القوية المعبرة عن الإرادة المخلصة والمسخرة لتفعيل دور أكبر وأشمل للوقف في عصرنا الحالي.
سادسا: الدولة الوطنية الحديثة وأداؤها للوقف، ومركزية الوقف واحتكاره، والإعلام الوقفي، وحوكمة الوقف، والتأسيس النظامي للوقف، والوقف العالمي، وأوقاف غير المسلمين، وغير ذلك: ولكلّ هذا مقصوده وتفصيل مصالحه ومنافعه، وتدقيق صوره وكيفياته، ومجاله رحب ودقيق، وأثره واعد ومأمول، والهمة تجاهه قوية وراسخة. وكل هذا يتجلى وفقا للرؤية المقاصدية الإسلامية الأصيلة المعتبرة المركوزة في أعماق النصـوص وجوهر الدين وحقائق سائر المدركات الإسلامية الجزئية والكلية، الظاهرة والخفية، العامة والخاصة.
الخاتمة:
وفي ختام هذا المقال يمكنني القول بأن الوقف الإسلامي المعاصر تحف به تحـديات وصعوبات، وتنتظره طموحات ومستجدات، وهو مع ذلك وعاء خيري محلـي وعـالمي، ومسار إنتاجي وإنمائي حافل بالعطاء حال تعميمه وتوسيعه وإدامته.
ومما نسجّل هنا من نتائج:
- الوقف في حاجة ماسة إلى الدراسة الشرعية الكاملة والواعية، والـتي تكـون الدراسة المقاصدية أحد أنواعها الأساسية. وذلك لأن هذه الدراسة تشكل في حد ذاتها إطارا شرعيا مهما في معالجة ما يستجد من نوازل وقضايا، وما يُطرح من تحديات وينتظر من طموحات.
- الوقف الإسلامي المعاصـر ميدان رحب لإنجاز التنمية العربية والإسلامية وتعميقها وترشيدها وتطويرها، وأنه مجـال فسيح لإحداث الإسهام الحضاري العالمي الإنساني، وأنه قابل للأداء الإداري والمؤسسـي المتطور والمتقدم، وأنه عنوان شفافية ومصداقية وموضوعية للأمـة الإسـلامية ولـدولها ومؤسساتها الناهضة به على الوجه الشرعي المطلوب.
- وما يطرأ من مشكلات محددة قد تُناط ببعض أعماله في بعض أحواله، فمـرده إلى سوء الفهم والتقدير وقلة النظر العميق أو الرأي المتعجل الذي سرعان ما يزول ويتلاشـى بالتعقيب والتحقيق والتقويم. ويبقى في كل أحواله جهدا بشريا يتطرق إليه النقص والسهو، ولكنه لا يقلل من أهميته الحضارية العالمية قديما وحديثا. وهو ما نصبو إلى تحقيقه وتوكيده وإبرازه.
ونوصي العاملين في الحقل الوقفي أن تتعاظم جهودهم البحثية والعملية في بلورة موقف شرعي عالمي معاصر لأحوال الوقف وتحدياته ومآلاته وآفاقه، من أجل النهوض به والانطلاق منه في إحداث نهضة إسلامية وطنية وعالمية، يكون العمل الوقفي أحد أياديها الفاعلة وأجنحتها المحلقة.