اقتضاء أحد النقدين من الآخر وحكمه عند المالكية

اقتضاء أحد النقدين من الآخر وحكمه عند المالكية د. مراد بلعباس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على…

اقتضاء أحد النقدين من الآخر وحكمه عند المالكية

د. مراد بلعباس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنّ عملية اقتضاء أحد النقدين من الآخر هي إحدى صور الصرف غير المباشرة، والحاجة ماسة إلى بيان حقيقتها وحكمها الشرعي، خاصة وأن كثيرا من عمليات الصرف المعاصرة تتم بها، وهو ما سنحاول توضيحه في هذا المقال بناء على ما ذكره فقهاء المالكية-عليهم رحمة الله-.

  1. مفهوم اقتضاء أحد النقدين من الآخر:
  2. تعريف الاقتضاء:

– لغة: الاقتضاء هو الأخذ، تقول: اقتضيت ما لي عليه أي قبضته وأخذته([1]).

اصطلاحا: الاقتضاء هو “قبض ما في ذمة غير القابض”([2]).

  1. تعريف الصرف باقتضاء أحد النقدين من الآخر:

يمكن أن يقال في تعريفه: “هو أن يكون لأحد المتصارفين على آخر دراهم فيأخذ منه بدلها دنانير، أو يكون عليه دنانير فيأخذ منه دراهم بسعر يومها”([3]).

ومثاله أن يكون لرجل على آخر دنانير جزائرية مثلاً فيدفع إليه المدين بدلاً عنها دولارات أمريكية، فحقيقة هذا الفعل أنه صرفٌ وقعَ في مال ثابت في الذمة، إذْ لم يحصل تقابضٌ من الجانبين الدائن والمدين في الدنانير والدولارات.

  1. حكم الصرف باقتضاء أحد النقدين من الآخر:

ذهب فقهاء المالكية إلى أنه يجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر بشرط قبض البدل في المجلس، وعلّة الجواز عندهم أن دافع الدراهم قد جعل ثمنها دنانير لا يجب قبضها؛ لأنها مقبوضةٌ حكماً بوقوعها في ذمته، فتصح العملية ولا يكون فيها ربا النَّساء رغم عدم التقابض في البدلين([4]).

وذلك لما رواه عبد الله بن عمر قال: كُنتُ أَبِيعُ الإبِلَ بِالنَّقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ بِالدَّرَاهِمِ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فَوَقَعَ فِي نَفسِي مِنْ ذَلِكَ فَأَتَيتُ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ أَو قَالَ: حِينَ خَرَجَ مِن بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، رُوَيْدَكَ أَسْأَلْكَ، إِنِّي أَبِيعُ الإِبِلَ بِالبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ فَقَالَ : «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهُمَا بِسِعْرِ يوْمِهِمَا مَا لَمْ تفْتَرِقَا وَبَينَكُمَا شَيْءٌ»([5]).

فهذا الحديث يدلّ على جواز الاستبدال عن الثمن الثابت في الذمة، ويدل على أنّ حُلُولَ ما في الذِّمَّةِ بِمَنزِلَة حضُورِه، وَالإِبْرَاءُ مِنه يَقُومُ مَقَامَ القَبْضِ فِيهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الجَوَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِن بابِ التنَاجُزِ فِي الصَّرْف([6]).

وقد ذكر فقهاء المالكية لجواز الصرف باقتضاء أحد النقدين من الآخر شروطا هي:

  1. يجب أن تكون تلك الدولارات الأمريكية في المثال الذي ذكرناه مقابلةً بتلك الدنانير الجزائرية الدَّين لا بدنانير مطلقة، لأنها لو قوبلت بدنانير مطلقة لما انصرفت إلى الدنانير الجزائرية الدَّين، فترتب عن ذلك صرفٌ غير ناجز.
  2. يجب أن لا يكون هذا العمل مبنيّاً على اتفاق سابق؛ لأنه يؤدي إلى تقدم الصرف وتأخر القبض، وهذا غير جائز.
  3. يجب أن يكون الصرف بسعر السوق يوم السداد، لا بسعر آخر؛ لأن المسألة تحتمل الذريعة الربوية فيما لو شرط الدائن ابتداءً على المدين أن يرد الدين بعملة أخرى، ليستفيد الدائن من الدين، وهذا مدخل إلى الربا.
  4. يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد لا قبله، على أداء الدين بعملة أخرى مغايرة لعملة الدين، إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، ويشترط أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة بهذه الطريقة، والدليل على ذلك حديث ابن عمر السابق، فقد شرط لصحة الصرف فيه أن يكون بسعر يوم السداد، وفائدة هذا الشرط منعُ الربا بإمكان استفادة أحد الدائنين بدينه، فقد يطلب الدائن المستحق لمال ما سعراً زائداً عن سعر الصرف في يوم السداد، فيكون قد استفاد من الدين([7]).

ويخرّج على هذه الصورة ما يقع اليوم في المصارف والبنوك حين يطلب العميل الدائن من المصرف أو البنك أن يصرف له جزءاً من ماله المودع لديه بعملة أخرى غير عملة القرض أو الوديعة لأغراض الاستثمار أو التحويل الخارجي ونحوها، وتعتبر هذه العملية جائزة بالشروط المذكورة آنفا، وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي([8]).

  1. (1) انظر: ابن منظور، أبو الفضل، جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري الإفريقي، لسان العرب، ط3، 1414هـ، دار صادر، بيروت، 15/188، والفيومي، أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، المكتبة العلمية، بيروت، 2/507.
  2. (2) انظر: المواق، أبو عبد الله، محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري المالكي، التاج والإكليل لمختصر خليل، ط1، 1416هـ/1994م، دار الكتب العلمية، بيروت، 6/183.
  3. (3) انظر: المرجع نفسه، 6/183.
  4. (4) انظر: ابن عبد البر، أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمد النمري القرطبي، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، ت: سالم محمد عطا، ومحمد علي معوض، ط1، 1421هـ/2000م، دار الكتب العلمية، بيروت، 6/350، والتسولي، أبو الحسن، علي بن عبد السلام بن علي، البهجة في شرح التحفة، ت: محمد عبد القادر شاهين، ط1، 1418هـ/1998م، دار الكتب العلمية، بيروت، 2/81، والمواق، التاج والإكليل، 6/183.
  5. (1) رواه الترمذي، أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى، سنن الترمذي، ت: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط2، 1395هـ/1975م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، كتاب البيوع، 3/536ـ وأبو داود، سليمان بن الأشعث الأزدي السِّجِسْتاني، سنن أبي داود، ت: شعيب الأرناؤوط، ومحمَّد كامل قره بللي، ط1، 1430هـ/2009م، دار الرسالة العالمية، بيروت، كتاب البيوع، 5/242.
  6. (2) انظر: الباجي، أبو الوليد، سليمان بن خلف بن سعد، المنتقى شرح الموطأ، ط2، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 4/263.
  7. (3) انظر: المواق، التاج والإكليل، 6/183.
  8. (4) انظر: نص قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي رقم: 75، المتعلق بقضايا العملة، دورة المؤتمر الثامن، المنعقد بسلطنة بروناي، شهر محرم 1414هـ/ الموافق يونيو 1993م.

اترك تعليقاً