الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي
البروفيسور : محمد دمان ذبيح جامعة محمد العربي بن مهيدي – أم البواقي- الجزائر المقدمة الحمد لله رب…
البروفيسور : محمد دمان ذبيح
جامعة محمد العربي بن مهيدي – أم البواقي- الجزائر
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله الطيبين ثم أما بعد:
يعد الاستهلاك الهدف أو الغاية الأساسية لكل النشاطات الاقتصادية، وأحد أهم مؤشرات الرفاهية، حيث تتجه الدراسات اليوم لمعرفة كل ما له علاقة بالاستهلاك، لكونه محركا أساسيا للتنمية الاقتصادية في المجتمع، لذا يعتبر الاقتصاديون: ” أن نظرية الاستهلاك هي الأساس العلمي لعلم الاقتصاد”، ومعنى ذلك أن دراسة السلوك الاستهلاكي، وفهم حقيقة الوظيفة التي يؤديها المستهلك تعد أمرا ضروريا لتفسير كثير من الظواهر، والمشكلات الاقتصادية.
ولكي يقوم الاستهلاك بهذا الدور التنموي الفعال هناك العديد من الضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية ، والتي تعمل على ترشيد سلوك المستهلك لكي يحقق هذه الغاية النبيلة في المجتمع ، لذا سأحاول بإذن الله تعالى في هذه المقالة المتواضعة أن أبين أهم هذه الضوابط، وذلك من خلال المحوريين التاليين:
المحور الأول : مفهوم الاستهلاك
المحور الثاني : ضوابط الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
المحور الأول : مفهوم الاستهلاك
يتطرق هذا المحور إلى مفهوم الاستهلاك في اللغة، وفي اصطلاح الفقهاء، وفي الاقتصاد الإسلامي، و الاقتصاد الوضعي ، وعليه فقد قسم هذا المحور إلى مايلي :
أولا : الاستهلاك في اللغة
ثانيا: الاستهلاك في اصطلاح الفقهاء
ثالثا : الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
رابعا : الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي
أولا : الاستهلاك في اللغة
الاستهلاك في اللغة مأخوذ من الفعل هلك ، يقال هلك يهلك هُلكا وهلكا وهلاكا : مات ، ويقال أهلك المال، واستهلكه أي باعه وأنفقه و أنفده ، والتهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك ، والاهتلاك و الانهلاك : رمي الإنسان بنفسه في تهلكة.[1]
أي أن الاستهلاك في اللغة يعني بشكل عام إنفاق الشيء، أو إنفاده وإفنائه بأي شكل من الأشكال.
وقد وردت كلمة هلك في القرآن الكريم على أربعة أوجه:
الأول: افتقاد الشيء عنك، وهو عند غيرك موجود، كقوله تعالى : ﴿ هَلَكَ عَنِّی سُلۡطَـٰنِیَهۡ ﴾ [ الحاقة : 29].
الثاني: هلاك الشيء باستحالة، وفساد كقوله تعالى ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل ﴾ [ البقرة : 205].
الثالث: الموت كقوله تعالى ﴿ إِنِ امْرُؤٌ هَلَك ﴾ [ النساء : 176].
الرابع: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا، وذلك المسمى فناء المشار إليه في قوله تعالى
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه﴾ [ القصص : 88].
فهذه هي الأوجه التي ذكرها العلماء عند ورود كلمة الهلاك في القرآن الكريم.[2]
ثانيا: الاستهلاك في اصطلاح الفقهاء
إذا تتبعنا أمهات الكتب الفقهية وجدنا كثيرا منها خاليا عن إفراد تعاريف مقصود خاص بالاستهلاك ، ولعل ذلك راجع إلى أن هدف الفقهاء المسلمين يرمي في المقام الأول إلى البحث عن الأحكام العملية ،أو قد يكون الاستهلاك عند هؤلاء الفقهاء جليا لا يحتاج إلى تعريف ، ولكن وعلى الرغم من ذلك فهناك بعض الاجتهادات الجادة في هذا الإطار ، وعلى رأسها تعريف العز بن عبد السلام حيث يعرفه بأنه:
- “إتلاف لإصلاح الأجساد وحفظ الأرواح كإتلاف الأطعمة والأشربة والأدوية”.[3]
- وكذلك يعرفه صاحب بدائع الصنائع بأنه ” إخراج الشيء من أن يكون منتفعا به منفعة موضوعة له مطلوبة منه عادة”.[4]
ومن التعريفين السابقين يتضح أن الاستهلاك في اصطلاح الفقهاء يعبر عن ” إهلاك الشيء بغرض تحقيق منفعة مطلوبة شرعا.”
ثالثا: الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
هناك عدة تعريفات للاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي نذكر منها ما يلي:
- الإتلاف فيما ينفع، أو زوال المنافع التي وجد الشيء من أجل تحقيقها، وإن بقيت عينه قائمة.[5]
وعرفه آخرون بأنه :
– استنفاد منافع سلعة.[6]
وعرف أيضا بأنه:
– استخدام السلع والخدمات فيما يحقق المنفعة للفرد، مع الالتزام بضوابط الشريعة.[7]
ومن هذه التعاريف السابقة يتبين أن الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي يعبر عن استخدام السلع والخدمات من أجل إشباع الحاجات الإنسانية المتعددة في إطار الضوابط الشرعية، لذا يمكن تعريف الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي بأنه “عمليات الإشباع المتوالية للحاجات الإنسانية Human Needs بالطيبات”، وهو بهذا المعنى لا يختلف عن مفهومه السابق في اصطلاح الفقهاء، كونه يمثل الشرط المادي لاستمرار الوجود الإنساني، وبه قوام الطاقات الجسدية والعقلية والروحية للإنسان، لذلك فهو فرض واجب بقدر ما يشبـع حاجات الإنسـان، ويحقق مقاصد الشريعة في ذلك، وتجري عليه الأحكام الأخرى على مقتضى قصد الشارع منه، فالاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي إذا ليس مجرد ميل ذاتي من الإنسان تجاه الأشياء التي ترغب النفس في الحصول عليها، بحيث يجعل منها غاية لذاتها، بل هو وسيلة لغاية أبعد من محض الاستهلاك لابد من إدراكها واستحضارها، لكي لا يكون المسلم عبدا للأشياء تنتهي مهمته الوجودية بتحصيلها، فالمهمة المحورية للوجود الإنساني في هذا الكون هي عبادة الله، تعالى فلا يجوز للمسلم أن ينتج ، أو يستهلك إلا من شأنه أن يكون خادما لتلك الغاية، لا قاصرا على إشباع نهم النفس، ورغباتها الآنية برفاهية جامحة.
رابعا: الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي
في الثلاثية الاقتصادية الكلاسيكية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك يشكل هذا الأخير المرحلة النهائية، حيث تشبع السلع والخدمات الحاجات الإنسانية المتعددة ويترافق مع كل استهلاك إنفاق سواء كان نقدا أم رأسماليا، ولقد أعطيت لكلمة الاستهلاك تفسيرات مختلفة، ولم يتفق الاقتصاديون حول المدلول الاقتصادي الذي يدخل في نطاق الاستهلاك، وعلى الرغم من ذلك فإنه يوجد عدد من التعريفات التي يلقي كل منها الضوء على زاوية أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، وكلما اشتمل التعريف على عناصر الاستهلاك، وهدف الاستهلاك، كان هذا التعريف أقرب إلى الصحة، وفيما يلي عرض لبعض هذه التعريفات:
- هو الإنفاق على السلع والخدمات النهائية، التي تشترى للحصول على الإشباع المطلوب، أو الحاجة التي تلبى من استعمالها.[8]
كما عرف أيضا بأنه :
أقصى استخدام ممكن للدخل في المجتمع.[9]
وبهذا وفي ضوء ما سبق يمكن أن نستنتج أن الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي يستعمل للدلالة على شيئين اثنين هما :
- الاستخدام المطلق للدخل الفردي في المجتمع.
- الغرض من هذا الاستخدام هو الحصول على أقصى إشباع ممكن للحاجات الإنسانة.
لذا يمكن تعريف الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي بأنه “الاستخدام المفرط للسلع والخدمات في المجتمع ، بغية تحقيق الإشباع المطلق للحاجات الإنسانية المتعددة”.
وبعد هذا التعريف، وبغية الإحاطة أكثر بمفهوم الاستهلاك، فإن الاقتصاديين يقسمونه إلى عدة أنواع نذكر منها مايلي:
- الاستهلاك الوسيط Intermediary Consumption
والمقصود بذلك أن يستهلك الانتاج استهلاكا وسيطا، أي أنه يستخدم بشكله الذي أنتج عليه في انتاج سلعة أخرى، وهذا الاستهلاك الوسيط هو ما يعبر عنه “بمستلزمات الإنتاج” ،أو “السلع الوسيطة”.[10]
- الاستهلاك الجماعي Collective Consumption
وهو الاستهلاك المشترك بين مجموعة من الناس كالنقل الحضري، وحدائق التسلية، التعليم، والمستشفيات العامة..[11]
- الاستهلاك النهائي Final Consumption
والمقصود بذلك أن يستهلك الانتاج استهلاكا نهائيا، بما ينطوي على ذلك من استخدام المنتجات من سلع وخدمات، أو التمتع بها لإشباع أغراض الاستهلاك ، وبحيث لا تختلف عن هذا الاستهلاك سلعة أخرى تصلح لإشباع حاجة ما.[12]
و لعل من نافلة القول هنا بيان أهمية الاستهلاك، والتي تكمن بشكل عام فيما يلي :
- الاستهلاك هو النشاط الاقتصادي الأساسي والنهائي. إنه بداية سلسلة من الأنشطة الاقتصادية التي تهدف إلى تلبية الاحتياجات الفردية، ونهاية سلسلة من الأنشطة الاقتصادية عندما يرضي المستهلكون احتياجاتهم المختلفة. الاحتياجات.
- الاستهلاك هو العامل الرئيسي الذي يؤثر على الإنتاج والنشاط.
- يستخدم الاستهلاك كمؤشر لفهم دور الأفراد غير المنتجين في العمليات الاقتصادية ، وبالتالي وجود العديد من النظريات الاقتصادية التي تسعى جاهدة لتحقيق الدور الحقيقي للأفراد في العجلة الاقتصادية الشاملة ، مثل مبدأ العرض والطلب ، وفائض المستهلك ، وقانون تناقص المنفعة الحدية ، إلخ.
- تساعد معرفة نصيب الفرد من الاستهلاك البلدان في صياغة سياسة حكومية ؛ مثل تحديد الحد الأدنى للأجور ، والضرائب ، والأساسيات والكماليات ، ومجالات الادخار والإنفاق في الولاية.
- يتطلب الاستهلاك إنتاجا مستمرا ومتزايدا للسلع والخدمات التي تساعد في الحفاظ على الوظائف ،ومنع البطالة وزيادة دخول العمال.[13]
ومن هنا وبعد أن تعرفنا على مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي يتضح أن مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي يتفق مع مفهومه في الاقتصاد الإسلامي من حيث الإشباع المستمر لحاجات الأفراد المتعددة غير أن هذا الاستهلاك من منظور الفكر الإسلامي يختلف عنه في الفكر الوضعي من أنه:
- محدد بضوابط الشريعة الإسلامية، الأمر الذي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية ،وإشباع الحاجات الأساسية للأفراد بصورة دائمة وراشدة ، وهذا طبعا بخلاف ما نراه في الاقتصاديات الوضعية الداعية إلى الاستهلاك بلا ضوابط، ولا قيود توجهه الوجهة السليمة ،مما أوقعها في سلسلة من الركود الاقتصادي ،والأزمات المتتالية، كالتي نعيشها اليوم ،والتي انهكت كبرى الاقتصاديات في العالم ، ودمرت بنيان كبرى الشركات، وأجبرتها على الإفلاس.
- كما أن للبعد الأخروي في الاقتصاد الإسلامي الأثر الفعال في العملية الاستهلاكية، وهذا حتى لا يكون الفرد عبدا للأشياء تنتهي مهمته الوجودية بتحصيلها ، كما هو الشأن في الاقتصاديات الوضعية المختلفة.
- ومن الناحية العملية فإن الاستهلاك يعد الهدف النهائي، والأخير من النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الوضعي، وأن المتتبع لأدبيات علم الاقتصاد من الناحية الفكرية والنظرية يرى أن مبحث الاستهلاك هو المقصود النهائي لمباحث الاقتصاد الوضعي، فالفرد عنده ينتج ليستهلك، وهو يستهلك لمجرد لذة ومتعة الاستهلاك، وكذلك يعيش ليستهلك، أي يستهلك ليستهلك – إن صح التعبير- ، ومن جهة أخرى فليست هناك حدود عليا لما يستهلكه الفرد سوى حدود القدرة على الاستهلاك، ويمكن أن يقال في ذلك أن الاستهلاك دالة متزايدة في حجم سعادة الإنسان، وقد صاغ القرآن الكريم أبلغ صياغة في ذلك حيث قال سبحانه وتعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ [ محمد : 12]، أما الإسلام ينظر إلى الاستهلاك بمفهوم أعمق من مفهوم الوضعيين، وهو استخدام المنتجات في إشباع الحاجات، إذ أن الاستهلاك أمر فطري للإنسان، ومن ثم فهو ضروري له، وكل ما كان كذلك لا يمنعه الإسلام بل يقف منه موقف الحث والترغيب غير مكتف بدافع الفطرة والغريزة، وذلك لأن بقاء الإنسان، واستمرارية نوعه ليعمر الأرض، ويكون خليفة فيها، ويعبد الله تعالى، ويقوم بواجباته الدينية لا يتأتى إلا بالاستهلاك.
المحور الثاني : ضوابط الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
وضع الإسلام مجموعة من الضوابط التي تنظم الاستهلاك بما يعرف بـ “الاستهلاك الرشيد” Rational consumption المنضبط، والتي تعمل على استقرار المجتمع، ودفع عجلة التنمية فيه[14]، ولعل أبرز هذه الضوابط[15]ما يلي:
أولا : دائرة الاستهلاك الحلال
الإسلام يصنف السلع إلى مجموعتين متمايزتين وهما:
المجموعة الأولى: مجموعة السلع الحلال يمكن تسميتها بالطيبات.
المجموعة الثانية: مجموعة السلع المحرمة ويمكن تسميتها بالخبائث.
وهنا نجد تحريم الإسلام لبعض الأشياء كالميتة ،والدم ولحم الخنزير، لأنها رجس تسيء إلى طاقات الإنسان الجسدية، وكذلك الخمر، وعموم المسكرات والمخدرات تسيء إلى طاقاته العقلية، والفسق يخل بطاقاته الروحية، لـذلك فـهي تتناقض مع غاية الاستهلاك، ووظيفته قال الله تعالى:﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه﴾ [ الأنعام : 145]، فالأصل هو حل الطيبات، وحرمة الخبائث، وكل ما أضر بالإنسان منع وإن لم يرد نص بكتاب أو سنة ، لأن في هذا التحريم صونا لثروة الأمة، وحفظا لها من الجريمة والفساد والتبعية، وفيه زيادة الادخار، وتمويل المشاريع المهمة والضرورية والنافعة للمجتمع.
ثانيا : النهي عن الإسراف والتبذير[16]
حيث يقول الله عز وجل ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين ﴾ [ الأعراف : 31].
ويقول كذلك ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [ الإسراء ك 27].
ولقوله صلى الله عليه وسلم ” ما عال من اقتصد “.[17]
فالتبذير والإسراف أمران بغيضان لدى المشرع الإسلامي، ولهما آثار سلبية على الاقتصاد ،حيث يقطعان ديمومة مصادر الأموال، ويحولان دون توفر الأموال اللازمة لتحقيق أغراض الإنفاق، وعمليات الاستثمار، فهما يؤديان إلى الحرمان والفاقة والتعطل والتخلف، وهذا ما تنأى عنه سياسات التمويل في الشريعة الإسـلامية، لذا فإنه من مـبادئ الاقتصـاد الإسلامي في هـذا الإطار الاعـتدال والتوازن، واستخدام المقدار الأدنى من السلع والخدمات دون إسراف أو تقتير[18]،وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا التوازن ،أو ما يعرف بتوازن المستهلكConsumer’s Equilibrium في الاقتصاد الوضعي لن يتحقق إلا من خلال تساوي المنافع الحدية للسلع المختلفة مقسومة على أسعارها كما هو مبين في المعادلة التالية:
أي تساوي المنفعة الحدية Marginal Utility لوحدة النقد في جميع أوجه الإنفاق على السلع المختلفة.[19]
ويرتكز قانون المنفعة الحدية على ظاهرة إشباع الحاجات الإنسانية، أي كلما زادت كمية الشيء المستهلك كلما قلت الحاجة إليه، أو الرغبة في الحصول على وحدات إضافية منه.
وينص قانون تناقص المنفعة الحدية على أنه ” كلما زادت الكمية المستهلكة من شيء ما في مدة معينة، كلما زادت المنفعة الكلية، ولكن بنسبة متناقصة، أي أن نسبة الزيادة في المنفعة الكلية تكون أقل من نسبة الزيادة في عدد الوحدات المستهلكة”، ويستمر هذا التناقص حتى تصبح المنفعة الحدية مساوية للصفر.[20]
وهذا معناه أن المستهلك في الاقتصاد الوضعي يكون في حالة توازن عندما يقوم بإنفاق كل الدخل على السلع والخدمات، محققا بذلك أقصى منفعة ممكنة وهو بذلك على خلاف المستهلك في الاقتصاد الإسلامي المطالب بالاستهلاك إلى الحد الذي يؤمن كامل طاقته، بصورة تحافظ على توازن المادة والروح ،لينال ثوابي الدنيا والآخرة.
لذا فإن قضية الاستهلاك في الاسلام ليست كما هي في الفكر المادي المعاصر قضية إنفاق يتناسب مع الانتاج، بل هي قضية توازن واعتدال في الإنفاق، مهما وسع الله سبحانه وتعالى على الإنسان من رزقه.[21]
ثالثا: ترتيب أولويات الاستهلاك
حيث يجدر بالمستهلك المسلم أن يحدد أولويات إنفاقه حسب الأولويات التالية: الضروري والحاجي والتحسيني، وعدم تقديم أو تأخير إحداها على الآخر حين لا تقتضي المصلحة ذلك، خاصة وأن هناك اعتبارات وترجيحات شـرعية تؤكد مبدأ وحدة سلم الاستهلاك للمجتمع المسلم، أو ما يعرف بوحدة دالة الرفاهية الاجتماعية، ولذلك يجب تخصيص الموارد بحسب سلم أولويات الحاجات الحقيقية لعموم أفراد المجتمع، وليس بحسب أسعار الطلب التي يستطيع دفعها الأغنياء من أبنائه فقط، وتتأكد هذه النظرة موضوعيا من خلال نظام التوزيع الإسلامي الذي يدعم اقتراحا ديمقراطيا على استخدامات الموارد، ومن خلال قوامة السياسة الشرعية، التي تستهدف تحقيق مصلحة الرعية من تخصيصها.[22]
رابعا : الموازنة بين الدخل والإنفاق
حيث يجب على المكلف الموازنة بين دخله وإنفاقه ، فمن كان دخله مثلا ألفا، لا ينفق ألفا وخمسمائة، فيضطر إلى الاستقراض، ويتحمل منة الدائن، والإضرار بميزانيته، فلا ينبغي لشخص أن ينفق شيئا إلا وهو ضمن حدود وسائله الاقتصادية، ولا يحل له أن يجاوز الحد حتى تكون نفقاته أكثر من دخله، ثم يضطر إلى تكفف الناس ، أو نهب أموال غيره، أو يستقرض من الناس دون حاجة حقيقية، ثم لا يؤدي إليهم، أو يصرف في أداء دينه كل ما يملك من الوسائل الاقتصادية، ويدخل نفسه بأعماله وتصرفاته في زمرة الفقراء والمساكين.[23]
خامسا : دخول البعد الإيثاري والجزاء الأخروي
وذلك في رسم دالة المنفعة الفردية ،وتأثير اتجاهات سلوك المستهلك المسلم فيجعل متابعته لتحقيق منفعته الخاصة لا يتم إلا بإشباع حاجات الآخرين، فترى الأجر العظيم للصدقة والإحسان ،والقرض الحسن ،والنفقة على الأقارب ،والهدايا والصلة وغيرها من ألوان البر والإيثار.
سادسا: النهي عن الترف والبذخ
حيث اعتبر الإسلام الترف والبذخ والتنعم الزائد عن الحاجة من أسباب زوال النعم وتحولها، لأنه طريق إلى المعاصي، ونسيان الله تعالى، إضافة إلى أنه وسيلة من وسائل تدمير موارد الأمة الاقتصادية، وضياعها بغير منفعة أو فائدة، وغياب ما يسمى بالادخار الذي هو طريق الاستثمار، والنمو والتقدم.[24]
وبهذا وفي ضوء ما سبق يتضح لنا أن الاستهلاك في الاسلام رشيد منضبط يساهم في بناء الاقتصاد، ودفـع عجلة التنمية في المجتمع[25]، فالله سبحانه وتعالى اختار للإنسان ما ينفعه، ويعينه على أداء رسالته في الحياة، وما على المسلم سوى اتباع نهج الله تعالى، والابتعاد عما نهي عنه، ليكون حينها مستهلكا رشيدا، واعيا يساهم في صنع اقتصاد أمته، وبناء طاقاتها، لا وسيلة هدم وتدمير وتخريب لها.
الخاتمة
بعد هذه المقالة المتواضعة، والموسومة ب :” الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي ” تم التوصل إلى النتائج التالية:
- الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي يعبر عن مجموعة التصرفات التي تشكل سلة السلع والخدمات من الطيبات، التي توجه للوفاء بالحاجات والرغبات المتعلقة بأفراد المجتمع، والتي تتحدد طبيعتها، وأولياتها بالاعتماد على أحكام وضوابط الشريعة الإسلامية، بغرض الاستعانة بها على طاعة الله عز وجل.
- الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي عبارة عن الاستخدام المطلق للسلع والخدمات في المجتمع ، بغية الحصول على أقصى إشباع ممكن للحاجات الإنسانية المتعددة.
- الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي استهلاك ترفي لا هم له سوى الإشباع المادي دون توجيه ولا ترشيد، مما أدى به إلى السقوط في هاوية الأزمات الاقتصادية المتتالية ، في حين أن الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي استهلاك رشيد يقوم على مفهوم متوازن يجمع بين الاعتدال ،والاستخدام السليم والأمثل للسلع والخدمات، مما يحقق للفرد إشباعا ماديا ومعنويا يعينه على أداء دوره في عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض.
- هناك العديد من الضوابط الشرعية التي تعمل على ترشيد الاستهلاك في المجتمع، ومن هذه الضوابط : دائرة الاستهلاك الحلال ، النهي عن الإسراف والتبذير، و ترتيب أولويات الاستهلاك وغيرها.
تم بحمد الله تعالى وتوفيقه
- – ابن منظور ، لسان العرب ، م6 ، ص : 4686 وما بعدها. ↑
- – الراغب الأصفهاني ، المفردات في غريب القرآن، ج2، ص: 708. ↑
- – العز بن عبد السلام ، القواعد الكبرى، الموسوم بـ: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، ج2، ص:156. ↑
- – الكاساني ، بدائع الصنائع، ج10، ص: 70. ↑
- – محمد رواس قلعجي ، قنيبي حـامد صـادق، مـعجم لغة الفقهاء، ص: 66. ↑
- – محمد أنس الزرقا ، السلوك الاستهلاكي في الإسلام، السياسة الاقتصادية في إطار النظام الإسلامي، ص: 339. ↑
- – ميدني نجاح، آليات حماية المستهلك في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير، ، جامعة العقيد الحاج لخضـر ، باتنة، الجزائر، 2007 – 2008 ص:46. ↑
- – سليمان عمر عبد الهادي ، الاستثمار الأجنبي المباشر وحقوق البيئة في الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي ، ص: 88 بتصرف. ↑
- – Janine Bremond, Alain Gélédan, Dictionnaire des sciences économiques et sociales P: 117. ↑
- – حسين عمر ، موسوعة المصطلحات الاقتصادية، ص: 29. ↑
- — Franc Bazureau, dictionnaire d’economie, , p : 92 ↑
- – حسين عمر ، مرجع سابق، ص: 29. ↑
- – نوران عادل ، أنواع الاستهلاك في الاقتصاد ، https://www.alfada2.com/ ↑
- – وهذا غير الاستهلاك الذي نراه اليوم في دول الشرق والغرب استهلاك ترفي كمالي فرضته وشجعت عليه وسائل الإعلام المعاصرة، حتى بات المستهلك يضطر إلى الاستدانة ،والاقتراض من البنوك والمصارف بغية إشباع حاجاته ورغباته التي ليس لها حدود، والباحث في أسباب الأزمة المالية العالمية الحالية يجد أن لها جذرين أساسين هما: الرغبة في الاستهلاك المفرط، ونظام الفائدة المجحف. ↑
- – يقصد بالضوابط الشرعية بصفة عامة الأحكام الكلية التي تنطبق على معظم الجزئيات موضوع التقويم، ويقصد بها في هذا المقام مجموعة الأحكام، والمبادئ الكلية التي تضبط سلوك المستهلك بصفة عامة. ↑
- – الإسراف هو صرف الشيء فيما ينبغي زيادة على ما ينبغي ، بخلاف التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، انظر الشرباصي ،المعجم الاقتصادي الإسلامي، ص: 28. ↑
- – رواه الإمام أحمد برقم 4269. ↑
- – للمزيد انظر يوسف القرضاوي ، دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، ص: 217. ↑
- – عبد المنعم غفر محمد، النظرية الاقتصادية بين الإسلام والفكر الاقتصادي المعاصر، م1، ص: 32. ↑
- – المرجع السابق ، ص: 173. ↑
- – عبد الغني عبود، ، التربيـة الاقتصادية في الإسلام ، القاهرة ، ص : 157. ↑
- – عبد الجبار السبهاني ، نموذج الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي، www.cibafi.org ↑
- – بوهنتالة إبراهيم ، صوابط الاستهلاك والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي ، ص : 268. ↑
- – للمزيد انظر شحاتة حسين حسين، القيم التربوية والضوابط الشرعية للسلوك الاستهلاكي الإسلامي، ،ص:20 وما بعدها. ↑
- – وذلك بتحقيق التوازن بين العرض والطلب، واستكمال هيكلة الاستقرار بين عامـلي الإنتاج والاستـهلاك، للمزيد انظر: صلاح الدين علي الشامي ، الاستهلاك ظاهرة بشرية في الرؤية الجغرافية، ص: 382. ↑