التسويق الإلكتروني في علم الميزان

التسويق الإلكتروني في علم الميزان عبد الله نوري باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة وهران 1،…

التسويق الإلكتروني في علم الميزان

عبد الله نوري

باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة وهران 1، الجزائر

مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية لدى نادي الاقتصاد الإسلامي، جامعة الكويت

إن المتأمل في نوازل هذا الزمان وما يكتنفها من تعقيد وتركيب ينجم عنه خلاف كبير بين العلماء في تصور وتكييف النوازل واستنباط الحكم الشرعي لها، ليجد موئلا للفقهاء في إعمال النظر المصلحي أو ما يمكن تسميته “بعلم الميزان”[1]، الذي نودّ أن نحكّمه في هذا المقال على التسويق الإلكتروني باعتباره نازلة من نوازل العصر، تحتاج إلى استنباط حكم شرعي لها.

ويمكننا تعريف التسويق الإلكتروني بأنه “الاستخدام الأمثل للتقنيات الرقمية، بما في ذلك تقنيات المعلومات والاتصالات لتفعيل إنتاجية التسويق وعملياته المتمثلة في الوظائف التنظيمية والعمليات والنشاطات الموجهة لتحديد حاجات الأسواق المستهدفة وتقديم السلع والخدمات إلى الزبائن وأصحاب المصلحة في المنظمة”[2]، ولا شك أن التسويق الإلكتروني نازلة حَوَت جملة من المصالح الشرعية كما يمكن أن تتضمن مفاسد شرعية، وعلى أساس الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومعرفة ما نقدِّم منها وما نؤخِّر يكون الحكم على هذه المعاملة بالإباحة أو الحرمة، على أن ميزان الصلاح والفساد يحوي كفتين ولسانا حساسا حال الموازنة.

أولا: كفة المصالح

1. تلبية الحاجات: وهي مصلحة شرعية أبيحت لأجلها التجارة قال تعالى: إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ [النساء:29]، وقد كان العرب يحرمون التجارة في الحج إذا دخل ذو الحجة، أسواقَهم: مَجَنّة وذو المجاز وعكاظ، وكانوا يقولون لمن يتجر في العشر من ذي الحجة: هؤلاء الداجُ وليس الحاجّ. فأبطل الإسلام ذلك بحكم قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِن رَّبِّكُمْ [البقرة:198]؛ أي: في أيام الحج[3] تلبية لحاجات الناس. فالتسويق الإلكتروني يتيح للمستهلك التسوق على مدار الـ 24 ساعة، ويعطيه فرصة مقارنة الأسعار واختيار الأفضل، ويسوِّي بين الأشخاص والمنظمات ورجال الأعمال في تكافؤ الفرص، ويضع بين يدي المسوقين والعملاء آلية الاستغلال الأمثل للوقت…[4]

2. تداول المال: “دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق”[5]. وقد دل على اعتبار هذه المصلحة قوله تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ [الحشر:7]، فالدُّولة –بضم الدال- تداول المال بين الناس وتعاقبه بين غنيهم وفقيرهم، لا أن يكون حكرا على الأغنياء فقط، أو بيد آحاد الأمة. والتسويق الإلكتروني سبيل لتداول المال بوجه حق.

3. ترويج السلع والخدمات: ونقصد به انتقالها من مالكها إلى غيره بعوض، وفي ترويجها تلبية لحاجات الناس، ليقع عليها المستهلك دون ما كدّ، ويجد فيها المسوقون أشخاصا كانوا أو منظمات زيادة انفتاح لأسواقهم وإقبال عليها، فتكون السلع والخدمات قريبة من العميل يطلع عليها ويصل إليها بأدنى جهد، ومن آليات الترويج الواسع النطاق استخدام تكنولوجيا الأنترنيت في التسويق.

4. حفظ الأُخوّات بتقليل المشاحنات: ودل على اعتبار هذه المصلحة ما لا يحصى عدّا من الأدلة في الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى: إِنّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وعند التعامل عن بعد في التسويق الإلكتروني نقلل من تلاقي الأجساد، وتبادل السباب والشتائم عند الخلاف وربما الصدام كما هو الحال في التسويق التقليدي.

5. دفع المشقات بتيسير المعاملات: دلّت على ذلك قواعد الشريعة وفروعها، فمن قواعدها: رفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، ومن أدلّتها قوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ [البقرة:185]، وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ومن أجل ذلك جاز البيع على الوصف (الكتلوك)، واغتفر ما في ذلك من الغرر اليسير قصدا إلى تيسير المعاملات وتسهيلا لتلبية حاجات الناس، والتسويق الإلكتروني آلية مهمة لتيسير المعاملات وتسهيلها.

ثانيا: كفة المفاسد

1. توقع التلاعبات من الأشخاص والمنظمات: وفيها ضياع الأموال التي جاءت الشريعة بحفظها، وتفويتٌ للجهود والأوقات التي هي رأسمال المسلم وأمرت الشريعة باغتنامها والمحافظة عليها، وقد تكون المعلومات والبيانات الشخصية عرضة للسرقة من قبل قراصنة الحاسوب، ويَرِد أن يقع في التسويق الإلكتروني التلبيس والتدليس في البيوع، والاستقالة من دون إقالة… وكل ذلك تلاعب.

2. التلبس بمفسدات العقود: لقد حرم الله كل عقد اعتراه الفساد، وما حرمه الله كان مفسدة ولا شك، فالمصلحة فيما أمر والمفسدة فيما نهى عنه وزجر، فالربا وأكل أموال الناس بالباطل والغرر والجهالةكلها تأتي على العقد بالإبطال، وعلى المال المقصود حفظه بالضياع والإهدار، وأعْظِم بها من مفسدة.

ثالثا: الموازنة بين المصالح والمفاسد

تبين مما سبق أن التسويق الإلكتروني تعتريه مصالح ومفاسد وعند الموازنة بينها لمعرفة الراجح منها من المرجوح يكون الحكم لما غلب، فإن رجحت كفة المصالح يبقى التسويق الإلكتروني على أصل الإباحة وإلا كان الحظر.

فالمصالح التي تتبّعتُها فيما سلف كلها مصالح معتبرة وبعضها من المقاصد الأصلية في التعاملات المالية كما نص على ذلك الإمام الطاهر بن عاشور، وفي ترتيبها نجد بعضها في مرتبة الضروري كالرواج والتداول وحفظ الأخوة فعند زوالها يقع الاضطراب في حياة الناس والفساد والفوضى، وفي ترويج الخدمات والسلع وتلبية حاجات الناس ما هو بمرتبة الحاجي وغالبها من التحسيني، والحاجي قد ينزل منزلة الضروري أحيانا.

وفي يسر الشريعة ورفع الحرج عن الناس في معاملاتهم ما يدفع المجتهد حال النظر في النوازل أن يميل إلى اليسر ولا يُشدّد فيما أصله الإباحة ما وجد إلى اليُسر سبيلا، فالقاعدة تقول: إن الأصل في الأشياء (المعاملات) الإباحة حتى يأتي الدليل بالحظر، والأصل في العبادات الحظر حتى يأتي الدليل بالجواز.

“وقد يقع الإغضاء عن خلل يسير ترجيحا لمصلحة تقرير العقود، كالبيوع الفاسدة إذا طرأ عليها بعض المفوِّتات المُقَرّة* في الفقه”[6].

وعند النظر في كفة المفاسد نجد أنها مفاسد متوقعة وليست متحققة، ودفع الفساد المتوقع لا يتقدم على جلب الصلاح المحقق، مع ملاحظة أن المفاسد المذكورة قد تعتري جميع أنواع العقود المالية الإلكترونية منها والتقليدية على حد سواء، ولا نمنع المباح لتوقع الفساد من بعض الناس؛ بل يجب أن نسنّ من القوانين ما يدفع فساد المفسدين في المعاملات ويحفظ الأموال من الضياع.

رابعا: النظر في المآل

عبر عنه الشاطبي بقوله: “مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عَذْب المذاق، محمود الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة”[7]، فعند النظر في مآلات المصالح المتعلقة بالتسويق الإلكتروني فإنها تبقى مصالح في المآل كما هي مصالح في الحال، لأنها مصالح معتبرة شرعا وليست مرسلة؛ وأما عند النظر في مآل مفاسد هذه المعاملة فيمكن الحد منها أو دفعها بوضع ما يضبطها شرعا؛ فمن ذلك:

  • عدم مخالفة المقاصد الشرعية في الأموال وهي: “الرواج، والوضوح، والحفظ، والثبات، والعدل”[8].
  • الالتزام بأركان وشروط العقد الصحيح، وهي: الإيجاب والقبول، ومحل العقد، والعاقدان.
  • الالتزام بأخلاقيات التجارة؛ كالبرِّ، والصدق، والأمانة، والكسب الحلال…
  • درء مفسدات العقود التجارية ومنها: الربا، والتلبيس، والكذب، والغرر، والجهالة… وكل ما كان سبيلا لأكل أموال الناس بالباطل.

خامسا: خلاصة القول

وعليه فإن القول بإباحة التسويق الإلكتروني بالتزام الضوابط الشرعية في ذلك هو الأصل في المعاملات، ما لم يطرأ عليها ما يحرمها، خاصة وأنها يغلب عليها جلب مصالح العباد جلبا محققا.

هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

  1. كتب فيه الأستاذ الدكتور الأخضر الأخضري، أصّل له في كتابه أثر المقامات الكاشفة عن المقاصد وتطبيقاتها، وطبق هذا المنهج في الاستنباط في كتابه السالف الذكر وكتاب: المختصر المقاصدي.
  2. الطائي؛ حميد، والصميدعي؛ محمود، والعلاق؛ بشير، وإيهاب؛ علي، الأسس العملية للتسويق الحديث مدخل شامل، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، الأردن، (بدون سنة)، ص (336-337).
  3. ابن عاشور؛ محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، مصر، ودار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 2014م، ص197.
  4. درمان؛ سليمان صادق، وعاكف؛ يوسف زيادات، وشفان؛ نوزت صالح، المرجع السابق، ص(39-41).
  5. ابن عاشور؛ محمد الطاهر، المرجع السابق، ص197.*هكذا وردت في هذه النسخة، وكُتبت في نسخة أخرى (المقرّرة)؛ وعلّق الشيخ ابن عاشور في هامش النسخة بقوله: “المفوّتات للبيوع الفاسدة هي حوالة الأسواق في غير الرّباع، وتلف عين المبيع أو نقصانها، وتعلق حقّ الغير به، وطول المدّة السّنين نحو العشرين في الشجر”.

    (وفي القوانين الفقهية تفصيل يجعلها خمسة أشياء: “الأول تغير الذات وتلفها كالموت، والعتق، وهدم الدار، وغرس الأرض، وقلع غرسها، وفناء الشيء جملة كأكل الطعام. الثاني: حوالة الأسواق. الثالث: البيع. الرابع: حدوث عيب. الخامس: تعلق حقّ الغير كرهن السلعة). ابن جزي؛ أبو القاسم محمد بن أحمد، القوانين الفقهية، ت: محمد أمين الضّناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون سنة الطبع، بدون رقم الطبعة، ص195.

  6. المرجع نفسه، ص206.
  7. الشاطبي؛ أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، المكتبة الوقفية، القاهرة، 2012م، ج4، ص468.
  8. ابن عاشور؛ محمد الطاهر، المرجع السابق، ص196.

اترك تعليقاً