|

النشر قبل النشر: فرص وتحديات

منير ماهر الشاطر – جامعة مالايا البحثية مقدمة: ما زالت التقنية بين الفينة والأخرى تفاجئنا بنقلات نوعية مذهلة،…

منير ماهر الشاطر – جامعة مالايا البحثية

مقدمة:

ما زالت التقنية بين الفينة والأخرى تفاجئنا بنقلات نوعية مذهلة، ولا أبالغ إن قلت أن صناعة النشر بأقسامها وأنواعها وأشكالها باتت مهددة تهديدا مباشرا كغيرها من القطاعات، فغالبية الناشرين اليوم كوسطاء بين المؤلفين والقراء عن طريق المطبوعات الورقية والإلكترونية معرضون لخطر الزوال… فالمستقبل التقني والشركات العابرة للقارات بإمكانياتها المهولة وسمعتها الدولية وقدراتها التقنية تعمل على تسريع حركة الوصول عالميا من المنتج (المؤلف) إلى المستهلك (القارئ) مباشرة، كما أن آليات التقييم والتغذية الراجعة من قبل القراء واقتباساتهم تعمل على فلترة مبدأية جيدة للجودة تعوض عن آلية التحكيم العلمي للنشر[1].

في هذه الورقة، سأسعى لتحديد الفرص والتحديات لمكونات صناعة النشر.. آملا أن أكون ذا فائدة للمهتمين.

عصر النشر الإلكتروني المباشر:

لم يعد يخفى ما يلقاه الكثير من كُتَّاب العالم من بخس لحقوقهم، أو صعوبة في نشر مؤلفاتهم، وبخاصة إذا كانت أبحاث علمية محكمة، سواء أكانت هذه الصعوبات رسوم مالية تدفع أو تأخير ناجم عن إهمال وعدم مبالاة بالكتاب الجدد، أو هضم للحقوق المالية بعد نجاح المؤلف في الأسواق.. ولحل هذه المشكلة قامت شركات رائدة وعملاقة باقتناص الإمكانيات التقنية المتوفرة لديهم وابتكار طرق نشر إلكتروني مباشر يتم فيها تلافي هذه العيوب بالنسبة للمؤلفين، حيث تمكن هذه المواقع المؤلفين من نشر ما يريدون، وقت ما يريدون، وبالشكل الذي يريدون، وذلك مقابل أرباح وعوائد عادلة للناشرين المركزيين يتحصلون عليها من العوائد المباشرة للمبيعات ومن زيادة حركة الدخول على الموقع والاستفادة من هذه الأعداد في نماذج ربحية أخرى، ويعود ذلك لتوفيرهم خدمات نشر مجانية، تماما كما هو النموذج الربحي لشركات عملاقة كجوجل وفيسبوك وأدوبي وغيرها.

فها هي شركة amazon.com مثلا إحدى أكبر متاجر الكتب الإلكترونية حول العالم، تمكن مما ذكر بشكل مجاني وبحماية كاملة وأرباح عادلة مهما بلغ حجم مبيعات الكتاب[2]. كما توفر للكُتاب احصاءات بعدد المبيعات وآراء المشترين وتعليقاتهم، ويقوم موقع جوجل برصد الاقتباسات التي أخذت من الكتب في حال ربطها معه أيضا.

وليس هذا الأمر مقتصرا على الكتب فحسب، فالأمر مشابه في صناعة النشر العلمي أيضا، حيث قامت كل من ResearchGate.com, and Academia.com اللذان يعدان أشهر موقعين للبحث العلمي والباحثين عبر شبكة الإنترنت اليوم بإدخال خاصية جديدة لضمان الحقوق تمكن المشتركين من نشر أبحاثهم العلمية بأمان عن طريق إعطاء أرقام DOI and ISSN متسلسلة للأوراق العلمية المنشورة؛ وهو ما يضمن عدم سرقة المحتوى العلمي ونسبته لآخرين منتحلين، كما يضمن نشر سريع وتغذية راجعة من قبل أوساط علمية مهتمة من خلال خاصية التعريف بالأبحاث في الأوساط والمجموعات المهتمة.. وهذه خاصية عظيمة في حفظ الحقوق والوصول إلى المختصين تعرض لأول مرة مجانا، وعلاوة على هذا يوفر الموقع إمكانية عرض إحصاءات شاملة ومنوعة ودقيقة للكُتاب حول عدد القراء وبلادهم وتعليقاتهم واقتباساتهم العلمية … وغير ذلك مما يهم الباحثين، ويحفظ الموقعان حق الكاتب بالمعلومات المنشورة وأسبقيته فيها عن طريق تشفير الملف وتوقيعه إلكترونيا وربطه مع موقع google. Scholar الشهير. وقد حصل للكاتب تجربة شخصية بنشر أبحاث عالقة في المجلات مدة أشهر ثم تم نشرها المباشر عبر موقع researchGate فنالت حظا من الاهتمام والقراءة بالمئات بالإضافة لعدد من التعليقات والتصويبات والمقترحات من قبل المختصين مما لم يكن ليحدث لولا هذه الخاصية الجديدة والمفيدة[3].

هذا وتقوم شركات أخرى حول العالم عن طريق الثورة التقنية التي تقدمها تقنية البلوكشين اليوم بمحاولة التخلص من الطريقة التقليدية في إثبات الحقوق وحفظ الأوراق من التزوير والغش وذلك عن طريق إعطاء توقيع إلكتروني على الملفات -أيا كان نوعها- باستخدام تقنية سلسلة الثقة (البلوكشين) لمنع تزويرها وإثبات أصالتها وحفظها، وهي طريقة أقوى بكثير وأنجع وأأمن من الطريقة التقليدية المعتمدة على الأختام والتواقيع وإشهاد العدول والحفظ في موقع فيزيائي، ومن ضمن المواقع الشارحة لهذه الخدمة الجديدة موقع https://ipfs.io والذي يعتمد على تقنية البلوكشين تماما في تقديم خدماته، وموقع مارتن ستلنبرج[4] أيضا والذي يحوي شرحا مطولا وممتعا حول آلية عمل التقنية في حفظ الملفات والمزايا المقدمة للمستخدمين.. وعدد هذه الشركات في تزايد حول العالم ويتوقع الكاتب أن تقوم الحكومات باعتماد هذه الإمكانيات في حكوماتها الإلكترونية كخطوة احترازية لضمان عدم انفلات سيطرتها لاحقا، بالإضافة لزيادة كفاءتها نظرا لحاجتها الماسة لهذه التقنية في أعمالها.

مزايا وإيجابيات النشر الإلكتروني المباشر:

ومن المزايا والإيجابيات لما يعرف بالنشر الإلكتروني المباشر ما يلي:

  • تكلفة نشر قليلة جدا، ينجم عنها توفير للورق والألوان وحماية للطبيعة.
  • نشر سريع، ولجمهور واسع جدا، حيث يصل المنشور إلى من يرغب ويستطيع حول العالم عبر شبكة الانترنت.
  • حفظ للحقوق من أفكار ونتاج علمي من السرقة والانتحال عن طريق التقنيات الحديثة كالبلوكشين والتوقيع الإلكتروني والختم الزمني بطريقة أنجع من النشر التقليدي الذي يعتبر محدود جغرافيا[5].
  • حجم لا محدود من النشر والنسخ، وحفظ لا محدود للعلوم في أماكن مختلفة حول العالم[6].
  • تسويق أسهل وأكفأ وأسرع وأرخص، فوسائل التسويق الإلكتروني أسهل وأكفأ وأشمل نطاقا من التسويق التقليدي.

في حين يرى البعض سلبيات لا تنكر كالتأثير الصحي للقراءة عبر الشاشات، وصعوبة استبدال تجربة القراءة والكتابة على الورق بالقراءة والكتابة الإلكترونية، بالإضافة للتخوف من السرقات والفقد نظرا لعدم الثقة بالتقنية، وإمكانية سيطرة دور نشر عملاقة على النشر العالمي ثم التحكم بالكُتاب والمؤلفات.. وغير ذلك من التخوفات.

الفرص والتحديات للكاتبين والباحثين:

  • الفرص: يمكن أن نجمل الفرص للكاتبين والباحثين بما يلي:
  • إمكانية النشر السريع للمحتوى العلمي، دون الحاجة للانتظار والموافقات من قبل دور النشر والناشرين.
  • عرض المؤلف على المختصين والمهتمين من خلال إدراج المنشور في خانات وتصنيفات ملائمة للجمهور المعني بها في مواقع خاصة بذلك، مما يتيح وصول المنشور إلى الفئة المعنية به.
  • إمكانية شهرة المؤلف الواسعة في حال توثقت الاقتباسات منه وبدأ البحث أو الكتاب بالظهور في الصفحات الأول من محركات البحث العالمية، وهو ما يزيد تأثير الباحث في الوسط العلمي ويبين مكانته.
  • تحصيل أرباح مالية عادلة لجمهور الكُتاب وبخاصة خاملوا الذكر عن طريق البيع الإلكتروني للنسخ في حال تم النشر في أوعية النشر بصيغة ربحية.
  • حفظ الحق في المؤلف المنشور وأسبقية الكاتب في الأفكار المنشورة عن طريق طرق التوثيق والاعتماد المتطورة آنفة الذكر.

احصاءات وأرقام:

تشير الاحصائيات أن النشر الذاتي بدأ بالتزايد بشكل غير مسبوق منذ عقد من الزمان، ففي عام 2008 فاقت الكتب المنشورة ذاتيا في الولايات المتحدة الأمريكية (والبالغة 85 ألف عنون) لأول مرة غريمتها المنشورة نشرا تقليديا[7]. وفي عام 2009 ، 76% من جميع الكتب المنشورة في أمريكا كان نشرا ذاتيا في حين قللت دور النشر من الكتب التي تنشرها ورقيا بشكل كبير، ولاحقا وخلال 6 أعوام حتى م2014 كانت نسبة النمو في النشر الذاتي في الولايات المتحدة الأمريكية قد بلغت 218% وهذا فقط بالنسبة للمنشورات الإلكترونية الذاتية المعطاة رقم ISBN فقط دون المنشور على مواقع ضخمة بترقيم دولي آخر مثل ISAN amazon kindle وغيره من الترميزات الدولية.

وهناك احصاءات عالمية كثيرة تشهد لما أسلفته، منها ما ذكرته بريطانيا من شراء الجمهور البريطاني 18 مليون عنوان ذاتي النشر في عام 2013م بنسبة نمو عن السنة السابقة بلغت 79%. والاحصاءات لأعوام 2017 و 2018م تشير إلى تفوق النشر الإلكتروني الذاتي من جوانب عديدة بعد أن وصلت حصته من أسواق النشر العالمية ب 25% وبما يزيد عن 2 مليار دولار سنويا [8]!

  • التحديات التي يواجهها الكُتاب والمؤلفون: ونجملها بما يلي:
  • في خضم سُعار النشر الذاتي وسهولته، غرقت الأسواق الإلكترونية عالميا بملايين العناوين ذات المضمون السيء والذي لا يهم أصحابها سوا أن يقال عنهم (مؤلف)! مما صعب عملية التمايز في الجودة ومعرفة قَدر الكتاب أو البحث المنشور وبخاصة لغير المختصين الذين قد يخدعوا بالمظهر والتصميم، هذا مع عدم عناية بعض الناشرين المركزيين العالميين بأدوات فلترة الجودة المُتبعة من قبل دور النشر المحترمة[9].
  • بعض الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة ذاتيا لا تخضع حاليا لاحترام واعتماد المؤسسات العلمية للترقية[10]، وذلك نظرا لحداثة النشر الذاتي والذي لا يتجاوز عمره عالميا عقد من الزمان. وتعمل آليات الفلترة في المواقع ذاتية النشر على تلافي هذه العيوب عن طريق إظهار عدد المهتمين والقراء والاقتباسات والتأثير العلمي للأبحاث المنشورة ذاتيا مما يقوم مقام التحكيم التقليدي بشكل أكفأ، وهو ما سيحتاج بضع سنين لتغيير العقلية التقليدية للجيل القديم في التقييم، والذي يعتمد حاليا على رأي محكمين اثنين ومدير التحرير أو مدير النشر، في حين توفر المواقع الحالية للكتب والأبحاث توصيات لامحدودة من قبل الخبراء.
  • صعوبة إعادة نشر الكتاب أو البحث في دور النشر التي ترغب أن تنشر ما لم يسبق نشره بأي وسيلة كانت، مما يحرم من الانتماء إلى دار نشر عريقة ويَكِلُكَ إلى جهدك التسويقي الذاتي لما تكتب .. ولا بد أن يتغير هذا مع الزمن، وإلى ذلك الحين …يعتبر هذا من التحديات!

الفرص والتحديات للناشرين:

  • الفرص:

لا يمكن أن نخفي أن الفرص قليلة في حق الناشرين الصغار، فالمنافسة بين الكبار صعبة ولا شك، ومن هنا وانطلاقا من المبدأ الإداري المعروف “التركيز على النوعية خيار استراتيجي ناجع عند صعوبة التركيز على الكمية”، على دور النشر ما يلي:

  • اقتناص فرص النشر الإلكتروني باستقطاب أكبر عدد من الكُتاب وقَبول ما تم نشره ذاتيا شريطة تحقيق معايير النشر المعتمدة لديهم، وبيع كتبها بأسعار معقولة.
  • التركيز على الفلترة والجودة، وذلك بالتخصص في نشر الكتب القيمة وذات الطابع الاختصاصي لتكون محطة تسوق تخصصية يجد فيها طالب العلم ما يرغب من جودة عالية وبأسعار مناسبة.
  • التحديات:
  • انخفاض المبيعات نتيجة لجوء القُراء إلى شراء الكتب من المؤلفين مباشرة.
  • صعوبة المنافسة مع مواقع النشر الكبيرة وما تقدمه من خدمات تحتاج تقنيات متقدمة.
  • خطر الإغلاق والخروج من السوق.

الفرص والتحديات للقراء:

  • الفرص:
  • الوصول إلى المعلومات بسهولة من شتى بقاع الأرض.
  • التعرف على الكتب والأبحاث المميزة من خلال أدوات فلترة الجودة التي تتيحها هذه المواقع مثل: (عداد الاقتباسات، عدد القُراء، تقييمات المشترين، توصيات الخبراء والعلماء، الظهور عبر محركات البحث … إلخ)
  • إمكانية البحث السريع عن المعلومة ونسخها واستخدامها وإعادة انتاجها.
  • التحديات:
  • الحفاظ على صحة العيون نظرا لما تسببه القراءة الإلكترونية من مشاكل صحية على المدى المتوسط والبعيد.
  • صعوبة التأقلم مع ندرة الكتب الورقية وتفضيل الكتاب الورقي على الإلكتروني لدى كثير من القراء.
  • خطر إضاعة المكتبة الإلكترونية في الأجهزة عند سرقتها أو قرصنتها أو إضاعة أقراص الذاكرة (فلاش مميوري) لصغر حجمها أو بنسيان أرقام السر في حال وضعها على هذه المكتبات الرقمية، وأيضا إضاعتها نتيجة شراء أقراص تخزين ذات جودة منخفضة معرضة للتلف، بالإضافة لإهمال كثير من القراء الاحتياط بالتخزين السحابي في عدة مواقع لمحتوياتهم الهامة.. وهو ما حصل مع كثير من الاخوة الذين أضاعوا مؤلفاتهم أو مكتباتهم الرقمية.

الخاتمة:

وفي الختام أنصح كل المعنيين بالمرونة والاستجابة للواقع الجديد باقتناص الفرص والاستفادة منها ومحاولة تجاوز التحديات وقلبها إلى فرص، فركوب الموجة ليس كانتظارها الارتطام والتحطيم.

فعلى مكونات صناعة النشر العربية إجراء مراجعة شاملة ومؤتمرات علمية بالتشارك مع الناشرين الكبار والمهتمين للخروج بتوصيات عملية تمكنها من الاستفادة من التقنيات العالمية في تحقيق الاستفادة القصوى لأطراف الصناعة قبل استحواذ الأسواق العالمية على الحصة العربية في القريب العاجل.

والحمد لله رب العالمين،،

  1. فتوصيات العلماء والخبراء والمتخصصين بعد النشر المباشر لها ثقل أكبر من التحكيم العلمي قبل النشر، كما أن عدد القراء والمهتمين والموصين والمعلقين والمقتبسين دلالة جيدة على الجودة أو الاهتمام.
  2. https://kdp.amazon.com/en_US/help/topic/G200635650
  3. من هذه الأبحاث والموجود على صفحة الكاتب الرسمية على الموقع Muneer Al-Shater ما يلي:
    – تقنية سلسلة الثقة (البلوكشين) وتأثيراتها على قطاع التمويل الإسلامي – درسة وصفية.

– اللغة العربية كلغة بحثية: حالة العلوم الاقتصادية الإسلامية نموذجا.

– الأفكار الاقتصادية للإمام الدهلوي.

  • https://www.martinstellnberger.co/document-certification-through-the-blockchain/
  • حيث يستغل كثير من الكتاب عدم انتشار بعض الكتب على شبكة الانترنت نظرا لوجودها في بلدان غير متطورة ويقومون بانتحال هذه الكتب أو الرسائل والأبحاث ونسبتها إلى أنفسهم، وقد شاع انتشار مثل هذا الفعل كثيرا .. ولن يكون ذلك ممكنا مع النشر الإلكتروني مستقبلا.
  • فالبنسخ الورقية قد يطبع ألف نسخة للكتاب، أما في النشر الإلكتروني فقد يتم تحميل ذات الكتاب مئة ألف مرة من أماكن مختلفة حول العالم.
  • Gil press, 5 march 2017, forbes magazine> wikipedia
  • Wikipedia, self-publishing facts.
  • وأتمنى لو تفلتر الشركات الضخمة المؤلفات ببعض الفلاتر حتى يكون هناك شيء من الممايزة بين ما هو جيد وما هو رديء.
  • وإن ظهرت مكانة البحث أو الكتاب المنشور!

2 تعليقات

اترك تعليقاً