|

الوقف في الفكر الإسلامي

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النّبي المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى: ذكر صاحب كتاب الوقف في الفكر…

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النّبي المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى:

ذكر صاحب كتاب الوقف في الفكر الإسلامي تجربةً له في أوائل القرن الخامس عشر الهجري، أنّه سعى له بعض المثقفين، الذين تلقوا دراستهم العليا في ألمانيا، وقـال لي بعد التحية: لقـد أحلتُ عليك الأستاذ “فلانًا”؛ ليتصل بك لتفيده في موضـوع “الوقف في الفكر الإسلامي”، وقد كان يعرف مسبقًا، مدى اهتمامي ودراستي لهذه المادة، فسألته عن الشخص الطالب، ولمّا عرفته، قلت له: يا أخي، إنّ صاحبنا هذا، أستاذٌ متخصصٌ في علم الإحصائيات، ماله وللوقف وأحكامه في الفقه الإسلامي؟؟

أجاب: بأنّ شركةً غربيةً عليا، متخصصـة أساسًا في صناعة السيارات العالمية، كلفته بالقيام بالبحث عن سرّ ونشاط هذه المؤسسات الوقفية، وأثرها في رحاب العالم الإسلامي، وكُلِّفتْ هي أيضًا من طرف جهات عليا، احتفظت لنفسها بالاختفاء وراء هذه الشركة؛ للبحث عن هـذا المدّ الكاسح العملاق، الذي انطلق كالأتِيِّ الهادر، والقـوة العارمة، يكتسح ما يجده في طريقه من عقاب وأشواك، ويوجّه مجرى التاريخ والأحداث من جديد.

قال صاحب الكتاب: قلتُ له: يا سيدي، صديقنا هذا، يقـدّم بحثه إلى الشركة الغربية، التي يتستر وراءها من كلفـوها، حتى لا يثيروا الشبهة، ثمّ يدخلون تلك الأفكار، التي تتضمن روح الوقف وأثره في توجيه وتربية المجتمعات الإسلامية، وعن ضوئها يحلّلون العقلية الجديدة!! قال: ثمّ أضفتُ: فليقرأوا، إن شاؤوا كلهم ما أكتبه عن الوقف وأثره في المجتمع الإسلامي، ما سوف أنشره عنه، من أبحـاثٍ ودراسـاتٍ على العمـوم، دون أن نُقَدِّم خـدمـة مجـانيـة لجهـات مشبوهـة!!

  • دور الوقف في تحقيق العزّة والكرامة:

مثّل الوقف منذ صدر الإسلام بابًا عظيمًا من أبواب الصدقة، وامتدت خيراته وعوائده لتصون عموم المسلمين من آفات الفقر والعَوَز، وتحفظ لهم قوام بقائهم وكرامة عيشهم.

عمل الوقف أيضًا على توفير نفقة كبار فقهاء المسلمين وعلمائهم، وأغناهم عن التماس المهن ومكّنهم من التفرغ لطلب العلم والسعي وراء المعرفة، فاستطاعوا تشييد حضارة مدنية بلغت أنوارها مشارق الأرض ومغاربها.

فقد كان الوقف حاضرًا أيضًا في أوقات الشدة والأزمات وانقطاع الأرزاق، وله دورٌ حاسمٌ في حماية البنيان الاجتماعي وتكريس مبدأ التكافل والتعاضد بين الأفراد والجماعات. كما مثّل أحد أهم عناصر التنمية والتطور والاستقرار عبر تاريخ الإسلام ودوله. فَضَمِنَ استمرار الأعمال واستصلاح الأراضي وازدهار حواضر المسلمين.

أمّا اليوم، وبعد أن ضيعت الأمة هذه الشعيرة المباركة وتهاونت في الحفاظ عليها، عانى المسلمون الفقر والبطالة وضيعوا أمنهم الغذائي والمجتمعي، فانتشرت الجريمة وساء حال المسلمين ورُفعت عنهم البركة.

فعلى مدى طويل جدًا عبر تاريخ العهود الإسلامية، أُنشئت أوقافٌ خلّدها التاريخ، حققت مقاصدها، وكانت روائع وثّقها التاريخ، ووراء كل ما خطّه الرحّالةُ في كتبهم، والمترجمون في السير، ترشد إلى أوقافٍ لم تكن في الحسبان، فقد خُصِّص في أوج حضارتنا وقفٌ لكلّ مطلبٍ وحاجةٍ، ووراء كلّ وقفٍ دافعٌ وحكاية، فالوقف في الإسلام، مشروع نهضةٍ للأمّة، وعودةٍ لعزّها وقوتها، وتمكينٍ لدورها الريادي والقيادي بين الحضارات والثقافات.

  • الثروة دائمًا في العطاء، لا في الأخذ أبدًا:

إنّ مجمـوعة الأعمال الطيبة، التي يقدمها الإنسان في حياته لمجتمعـه وللأمّة، التي ينتمي إليها، هي ثروته الحقيقية، كما يقول فيلسوف فرنسا وشاعرهـا “فولتير”، فالثروة دائمًا في العطاء والعطاء، لا في الأخذ أبـدًا، وهي الباقية بعد رحيلـه؛ لأنّها الذكرى التي يحملها له النّـاس في قلوبهم كلما رأوا أعماله.

وإذا كان الوقف سنّة من سنن الرسول بالقول والفعل، فلا غرو، أن نرى الصحابة الكرام، الذين شرفهم الله بالسير على سنته، واتباع هديه، وترسم خطاه، واقتفاء آثاره، يتسارعون في وقف أمـوالهم ورصدها على الفقراء والمساكين وفي سبيل اللـه؛ لعلمهم أنه زيادة على ما في هـذه السنّة الكريمة من قربةٍ وعملٍ صالحٍ، تنطوي على مغزى إنسانيٍ عظيم الأهمية، جمّ الفـوائد، جليل العوائد؛ لما تيسره من أسباب التضامن، وتوفره من مجالات العمل من أجل إسعاد جماعة المسلمين، والتخفيف من حدة لأواء طبقة المحرومين، وفئة المكظومين والمكدودين والمضغوطين، وتقوم بكل ما من شأنه الحفاظ على ابتسامة الإنسان، وتوفير أسباب السعـادة الراضية، والأمل المطمئن لمواساة كل مكروب، وإغـاثـة كل ملهوف بقطع النظر عن الحدود المصطنعة، والفوارق المذهبية، والتقلبات السياسية.

وإنّنا لنجـد أمثلةً رائعةً ورائدةً، ممـّا في العالم الإسـلامي من المشروعات الخيرية، والمآثر الإنسانية، والمبرات العمومية ممّا لم يتفطن لأكثـره العالم الغربي، بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من الغاية القصـوى في العمران، والدرجة العليا في الاحتياط، لإزاحة علـل الإنسان.

  • الوقف، الحجر الأساس:

فقد كان الوقف هو الحجر الأساس الذي قامت عليه كلُّ المؤسسات الخيرية في الحضارة الإسلامية، من بناء الخانات والفنادق للمسافرين والمنقطعين وغيرهم من ذوي الحاجة، ومنها التكايا والزوايا ومنها بيوت خاصة للفقراء؛ يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا، ومنها السقايات وسبل الماء في الطرقات العامّة للنّاس جميعًا، ومنها المطاعم الشعبية التي يوزّع فيها الطعام من الخبز واللحم وحساء وحلوى؛ مثل تكية السلطان سليم، وتكية الشيخ محي الدين بدمشق، ومنها حفر الآبار في الفلوات؛ لسقي الماشية والزروع والمسافرين، وقد كانت كثيرة بين بغداد ومكة وبين دمشق والمدينة المنورة، وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقراها، ومنها أمكنة المرابطة على الثغور، ووقفٌ لإصلاح الطرق والقناطر والجسور، ومنها لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.

قال الحق سبحانه: ﮋ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﮊ.

قد ثبت في أحاديث صحيحة أنّ النّبي ترك أمـوالاً متنوعـةً، مـن عقـارٍ وزراعةٍ، وبعد موته أصبحت هذه العقارات والمزارع أوقافًا مستغلةً؛ يُصرف ريعها على أزواجـه وذريته. ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه: “أنّ فاطمة، سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة النّبيﷺ أن يَقسم لها ميراثها ممّا ترك النّبيﷺ ممّا أفاء الله عليه. ثمّ ذكر الشاهد من ذلك بقول عائشة رضي الله عنها: “وكـانت فاطمـة تسـأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول اللهﷺ من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة”.

فهذا الحديث يؤكد ما فسره أهل التاريخ والسير والمغازي مـن حديـث مفصل عن صدقات النّبیﷺ وأحباسه في المدينة المنورة، وفي خيبر وفـدك، وهـي قـرى مجاورة للمدينة؛ معروفة إلى اليوم في عصرنا الحاضر.

ومن ذلك أيضًا ما ذكره البخاري عـن مـالك بن أوس، وممّـا جـاء فيـه: “أنّ عليـًا وعباسًا جاءا إلى عمر بن الخطاب في خلافته يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من مال بني النضير”.

الشاهد من هذا الحديث الطويل الذي ذكره الإمام البخاري وغيره أنّ بعض أمـوال بني النضير من يهود المدينة، كانت بعض أحباس النّبيﷺ بعد موته. وروى البخاري بسنده عن أبي إسحاق، قال: سمعتُ عمرو بن الحارث قال: “ما ترك النّبيﷺ إلا سلاحه، وبغلته، البيضاء، وأرضًا تركها صدقة”.

إنّ ديننا الحنيف شرعةٌ متكاملةٌ، ومنهجٌ سديدٌ صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وفيه النفع لكلّ إنسان في حياته وبعد مماته، فقد ندب الله تعالى عباده إلى فعل الطاعات والقيام بالمأمورات في أثناء حياتهم، حتى يفوزوا برضا الله تعالى والجنّة، كما شرع لهم من أعمال البرّ والصلة ما يزيد في حسناتهم ويضاعف مثوبتهم حتى بعد موتهم. وقد دلّ على ذلك حديث النّبي: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاثة: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له”.

بقلم

وهيب خوج التيمي

اترك تعليقاً