الولاية على المال: مفهومها ومراتبها
عنوان المقال: الولاية على المال: مفهومها ومراتبها د. مراد بلعباس تعتبر مسألة الولاية على المال من أهم المسائل…
عنوان المقال:
الولاية على المال: مفهومها ومراتبها
د. مراد بلعباس
تعتبر مسألة الولاية على المال من أهم المسائل التي يذكرها الفقهاء في كتبهم، حيث يفصلون في مباحثها وأحكامها، لما لها من أهمية في حفظ المال وحسن تدبيره، ولعلنا في هذا المقال المختصر نذكر أهم ما يتعلق بها من حيث مفهومها ومراتبها.
الولاية في اللغة([1]) مصدر من الفعل وَلِيَ يَلِي وَلاَيَةً، بمعنى نصر وأعان وساعد، فهي النُّصرة والمعونة والمساعدة، وتقرأُ الوَلاية بالفتح وهي المصدر، والوِلاية بالكسر وهي الاسم، كالإمارة والنقابة، لأنّه اسمٌ لما تولّيته وقمت به، قال ابن الأثير: وكأنّ الولاية تُشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطبق على صاحبها اسم الوليّ.
والولاء هو الملك والقرابة والنُّصرة والمحبة، والمولى هو الربّ والمالك وكلّ من ولي أمراً أو قام به، ومن معاني الولاية القرابة والخطّة والإمارة والسلطان والبلاد التي يتسلّط عليها الوالي، والوليُّ هو كلّ من ولي أمراً أو قام به، والنصير والمحبّ والحليف والصهر والجار والتابع والمعتق والمطيع والنزيل والشريك والقريب من العصبة.
فالولاية في اللغة لا تخرج عن معاني النُّصرة والمحبة والشفقة والإمارة، وكاّن الوليّ الذي يتولّى أمر من هو في حاجة إلى ولايته ينصره ويساعده، ويشفق عليه في تصرّفاته معه.
أمّا في الاصطلاح الشرعيّ فإنّ الولاية معناها: “قيامُ شخص مقام آخر في التصرّف عنه، أي هي القدرة على إنشاء العقد إمّا لغيره أو لنفسه”، أو هي: “سلطة شرعية تجعل لمن تثبت له القدرة على إنشاء العقود والتصرّفات نافذةً، سواء أنشأها لنفسه أو لغيره”([2]).
فإذا كان لهذا الشخص القدرة على التصرّف في ماله ونفسه في حدود احترام حقّ الغير، فإنّ هذه الولاية تسمّى ولاية قاصرة، وتثبت للشخص إذا كان كامل الأهلية، أمّا إن كان للشخص القدرة على إنشاء العقود والتصرّفات الخاصّة بغيره فإنّ هذه الولاية تسمّى ولاية متعدّية، وهي لا تثبت للشخص إلاّ إذا ثبتت له الولاية على نفسه([3]).
وتسمّى هذه الولاية بالولاية الخاصّة في مقابل الولاية العامّة، التي تعني ولاية أمير المؤمنين أو الخليفة، ومن ينوب عنه كالوالي والقاضي ونحوهما.
وقد عرّفت الولاية الخاصّة بأنّها “النيابة الجبرية التي يفوّض فيها الشرع أو القضاء شخصاً كبيراً راشداً بأن يتصرّف لمصلحة القاصر في تدبير شؤونه الشخصية والمالية، وبمقتضاها يعتبر الولي هو الممثل الشرعيّ لذلك القاصر، فيقوم مقامه في جميع الحقوق التي تقبل النيابة من عقود وأفعال ومخاصمات في الحقوق ونحو ذلك، وتكون تصرّفاته نافذة عليه جبراً إذا كانت مستوفيةً لشرائطها الشرعية، بحيث لا يكون للقاصر بعد بلوغه راشداً الحقُّ في نقض شيءٍ منها”([4]).
وتثبت هذه الولاية الخاصّة عل المحجور عليهم لسبب من أسباب الحجر، وهي: الصِّغَر والجُنُون والعَتَهُ والسَّفَه والغَفْلَة، وتستمرُّ هذه الولاية قائمةً حتى تزول هذه الأسباب.
فالصغير: هو الذي لم يبلغ الحلم ذكراً كان أو أنثى، فإذا مات أبوه وهو صغير يسمّى يتيماً إلى أن يبلغ، والصغير نوعان: مميّزٌ وهو الذي يعرف معنى العقد ويقصده، ويميّز الضارّ من النافع، وغيرُ مميّز وهو الذي لم يصل بعد إلى سنّ التمييز وإدراك حقائق الأشياء.
والمجنون: هو من زال عقلهُ، فإن كان جنونه يعمّ جميع الأوقات فهو المجنون جنوناً مُطْبِقاً، وتصرّفاته كلّها باطلة، وإن كان يجنّ تارة ويفيق تارة أخرى فهو المجنون جنوناً متقَطِّعاً، وتصرّفاته حال جنونه باطلة، وحال إفاقته صحيحة نافذة.
والمعتوه: هو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير، لكنّه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون، فقد يكون في حالة لا يعقل فيها ألفاظ التصرّفات وآثارها، فيكون كالصغير غير المميّز، أو يكون بحالة يعقل فيها ألفاظ التصرّفات وآثارها، فيكون كالصغير المميّز.
والسفيه: هو من يسرف في إنفاق ماله، ويضيّعه على خلاف مقتضى العقل والشرع فيما لا مصلحة له فيه، وقد اختلف الفقهاء في الحجر عليه، فذهب المالكية والشافعية والحنبلة والصاحبان من الحنفية إلى جواز ذلك، وذهب أبو حنيفة والظاهرية إلى عدم جواز ذلك.
وذو الغفلة: هو من لا يهتدي إلى التصرّفات الموفّقة أو الرابحة، فيُغبن في البيع والشراء لسلامة قلبه، فهو لا يتبع هواه ولا يقصد الفساد كالسفيه، وحكمه من حيث الحجر عليه كحكم السفيه([5]).
وقد اختلف الفقهاء في ترتيب من تكون له الولاية على مال المحجور عليهم، ومردّ هذا الاختلاف اعتبار كلّ فريق أنّ مصلحة المولى عليه تكمن عند من قدّمه.
فذهب الحنفية إلى أنّ الولاية على المحجور عليهم تكون لسبعة أشخاصٍ ترتيبهم على النحو الآتي: الأب فوصيُّه فوصيُّ وصيِّه، ثمّ الجدّ أبُو الأب فوصيُّه فوصيُّ وصيِّه، ثمّ القاضي فوصيُّه، فوصيٌّ الأب مقدّمٌ عندهم على الجدّ، لأنّ الأب ما اختاره عليه مع وجوده إلاّ لعلمه بأنّ شفقته على ورثته كشفقته هو عليهم، وإن كان الجدّ موفور الشفقة إلاّ أنّ شفقته دون شفقة الأب([6]).
وذهب المالكية إلى أنّها تكون للأب ثمّ وصيّه ثمّ وصيّ الوصيّ وإن بَعُد، فإن لم يكن وصيٌّ تكون للحاكم أو وصيّه، ولم يجعلوا للجدّ ولايةً لأنّهم يعتبرونه كالأخ يُدْلي بالأب([7]).
أمّا الشافعية فإنّ الولاية عندهم تكون للأب ثمّ الجدّ أبي الأب، ثمّ لمن يوصي إليه الموجودُ منهما، بمعنى أنّها تكون لمن أوصى له الأب أو الجدّ، ثمّ للقاضي أو وصيّه، فهم يقدّمون الجدّ على وصيّ الأب على اعتبار أنّ الجدّ هو أبٌ أيضاً([8]).
وأمّا الحنابلة فإنّهم يجعلونها للأب ثمّ وصيّه، ثمّ للقاضي أو مَن يُقيمه مقامه، وقالوا بأنّه لا ولاية للجدّ، لأنّه لا يُدْلي بنفسه وإنّما يُدْلي بالأب فكان كالأخ([9]).
والملاحظ من خلال هذه الآراء أنّ الحنفية والشافعية اتفقوا على أنّ للجدّ الولاية على مال المحجور عليه، لكنّ الشافعية خالفوا الحنفية في أن قدّموا الجدّ على وصيّ الأب، إذ لا يُعقل عندهم أن يتقدّم الوصيُّ على الجدّ الذي هو أبٌ أعلى لهذا المحجور عليه، أمّا الحنفية فقد قدّموا الوصيّ على اعتبار أنّ الأب ما قدّمه إلاّ لسبب اطّلع عليه.
وأمّا المالكية والحنابلة فإنّهم لم يجعلوا الجدّ وليًّا أصلاً، وذلك لأنّ الجدّ عندهم لا يرتبط بهذا المحجور عليه مباشرة وإنّما بواسطة أبيه، فهو إذاً كالأخ يُدْلي بالأب، والأخ لا ولاية له على أخيه المحجور عليه في ماله، فيكون الجدّ كذلك أيضاً، لكنّهم اختلفوا في الوصيّ هل يوصي لغيره أم لا، حيث أقرّ المالكية ذلك وقالوا بأنّ الولاية تكون لجميع الأوصياء وإن بعُدوا، في حين أنّ الحنابلة قصروها على وصيّ الأب، ومن ثمّة تنتقل بعده إلى القاضي أو من ينوب عنه.
وختاما فإن الغاية عند هؤلاء الفقهاء جميعا هي الحرص على حفظ أموال المحجور عليهم، وعدم تعريضها للهلاك بسبب تقصير الولي في حفظها، فقدموا من الأولياء من رأوا أنه أحفظ للمال من غيره.
- (1) انظر: ابن منظور – لسان العرب – 15/405، والجوهري – الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية – 6/2530، والزبيدي – تاج العروس من جواهر القاموس – 40/243، ومجموعة المؤلّفين – المعجم الوسيط – 2/1058. ↑
- (2) الرفعي، عبد السلام، الولاية على المال في الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في المذهب المالكي، طبعة 1996م، مطابع أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب الأقصى، ص20. ↑
- (3) المرجع نفسه، ص20-21، بتصرف. ↑
- (4) حمّاد، نزيه، نظرية الولاية في الشريعة الإسلامية – عرض منهجي مقارن – ط1، سنة 1414هـ/1994م، دار القلم بدمشق والدار الشامية ببيروت، ص51. ↑
- (5) المرجع نفسه، ص59-60، بتصرّف. ↑
- (6) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/155، وابن عابدين، حاشية رد المحتار، 3/70. ↑
- (7) انظر: القرافي، الذخيرة، 4/217 وما بعدها، والقاضي عبد الوهاب، التلقين في الفقه المالكي، وبحاشيته تحصيل ثلج اليقين في حلّ معقّدات التلقين للسجلماسي، ص167. ↑
- (8) انظر: النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، 4/187، والشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 2/173. ↑
-
(9) انظر: البهوتي، شرح منتهى الإرادات، 2/175. ↑