| |

تغير محل عقد البيع وآثاره

قد يطرأ على محل العقد تغيّرٌ جزئيٌّ ما كأن يتعيّب، أو تنقص قيمته، أو يفوته وصفٌ ينقله من…

قد يطرأ على محل العقد تغيّرٌ جزئيٌّ ما كأن يتعيّب، أو تنقص قيمته، أو يفوته وصفٌ ينقله من صورته الأصلية التي رضي بها المشتري عند إبرام العقد إلى صورة أخرى تفوّت عليه مصلحة الشراء، ونحو ذلك من صور التغير التي يمكن أن تحدث، وهذا التغيّر قد يطرأ قبل حصول القبض وقد يحدث بعده، كما قد يحدث بعد العقد وقبل القبض، وقد يحدث التغير للمقبوض أيضاً أثناء فترة الخيار، وفيما يأتي بيان لكل حالة من حالات هذا التغير وآثاره:

الحالة الأولى: تغيّر محل عقد البيع قبل القبض:

اتفق الفقهاء([1]) على أنّ التغيّرات الحادثة في محل عقد البيع قبل القبض لا ترجع على أصل العقد بالبطلان، إذا كانت هذه التغيّرات نتيجة جوائح أو آفات سماويةٍ، أو تحولات ذاتية في المبيع، فقد يتعرض المبيع لتغيّرات بسبب تقلبات جوية، أو تغيّرات كونية لا علاقة للإنسان بها، كموجات الصقيع التي تتلف المحاصيل الزراعية، أو الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، أو الزلازل الأرضية ونحو ذلك من الآفات، وتسبُّب مثل هذه الآفات بالتغيّر لا يبطل العقد، وإنما يعطي الخيار للمشتري إذا تغيّر المبيع قبل القبض بين فسخ العقد، أو أن يقبل المشتري بالمبيع ويرضى به على حالته دون مطالبة البائع بالأرش على ما أحدثته الآفة من تغيّر؛ لأن البائع لم يتسبب بها، وفي إجباره على الأرش إلحاق ضررٍ به؛ لأنه لم يرض ببيع السلعة للمشتري إلا بالثمن الذي اتفقا عليه، كما أنّ هذا الأرش ينقص ثمن سلعته وهذا ما لا يرضاه، ولا شك أنّ مبنى العقود على الرضا.

أما ما حدث من تغيّرات على المحل بسبب البائع، أو المشتري، أو بسبب طرف أجنبي عنهما، فإنّ الفقهاء يتفقون على عدم إبطال تلك التغيّرات للعقد، إلا أنهم يختلفون في الآثار الفقهية المترتبة عنها من حيث إثبات الخيار، أو إلحاق الضمان بأحد العاقدين:

فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية([2]) والمالكية([3]) والشافعية([4]) إلى أنّ ضمان المبيع قبل القبض يكون على البائع؛ لأن المبيع لا يزال في ملكه، ويخير المشتري بين فسخ العقد وأخذ جميع الثمن، وبين إمساك المبيع بجميع الثمن دون أخذ الأرش على النقص الحادث بسبب التغيّر، وحجة عدم جواز أخذ الأرش على التغيّر أنّ المشتري له القدرة على فسخ العقد فلا يتضرر بفوات المبيع عليه، ولكنّ إلزام البائع بالأرش يلحق به خسارة زائدة، ويجمع عليه ضمان المبيع مقابل ثمنه وضمان أرش النقص، وهذا مما لا يصـح.

وذهب الحنابلة إلى تضمين البائع النقص الحاصل من تغيّر المبيع قبل القبض، وإعطاء الخيار للمشتري، لكنَّهم قالوا بجواز أخذ الأرش عن نقص المبيع، وحجتهم في ذلك أن المتبايعين تراضياً على أنّ الثمن في مقابل المبيع، فكل جزء من الثمن يقابله جزءٌ من المبيع، ومع التغيّر الحادث فات جزءٌ من المبيع فيرجع ببدله وهو الأرش([5]).

وذهب الظاهرية إلى أنّ ضمان المبيع على المشتري؛ لأن المبيع انتقل إليه بمجرد العقد، فهو يتحمل نقص التغيّرات الحادثة في المبيع ولو حدثت قبل القبض([6]).

والذي يبدو راجحاً هو رأي الجمهور؛ لأنه يخدم مصلحة المتعاقدين، حيث يجعل ضمان المبيع على البائع؛ لأنّ المبيع في حوزته وملكه، ولا يكلفه أرش النقصان لكي لا يجمع عليه ضمانين، كما يعطي الخيار للمشتري فيرفع الضرر عنه برد المبيع، أو قبوله على ما هو عليه دون الأرش إذا كانت منفعته لا تزال قائمـة.

الحالة الثانية: تغيّر محل عقد البيع بعد القبض:

اتفق الفقهاء([7]) على أنّه إذا تحقق القبض بين البائع والمشتري فإنّ ضمان المبيع ينتقل إلى المشتري؛ لأنه أصبح تحت ملكه وسيطرته، فما طرأ عليه من تغيّرات بعد القبض لا يؤثر على العقد ولا يبطله، وإنما يتحمل المشتري النقص المترتب عنها، ولا يرجع على البائع بشيءٍ من ذلك؛ لأن يد البائع قد ارتفعت عنه.

قال الإمام ابن حزم رحمه الله: ” وَكُلُّ بَيْعٍ صَحَّ وَتَمَّ فَهَلَكَ المَبِيعُ إثْرَ تَمَامِ البَيْعِ فَمُصِيبَتُهُ مِنْ المبتَاعِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى البَائِعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَرضَ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نَقْصٍ، سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ المَبِيعُ غَائِبًا أَو حَاضِرًا، أَوْ كَانَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَجُنَّ أَوْ بَرصَ أَوْ جُذِمَ إثْرَ تَمَامِ البَيْعِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ ثَمرًا قَدْ حَلَّ بَيْعُهُ، فَأُجِيحَ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَاعِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ”([8]).

وهذا الحكم مبنيٌّ على قاعدتين مشهورتين تتفرع عنهما مسألة الضمان بعد القبض وهما: قاعدة ”الخراج بالضمان”، وقاعدة ”الغُنم بالغُرم”، ومعناهما: أنّ ما خرج من المبيع من غلّةٍ ومنفعة أو زيادة فهو للمشتري عـِوض ما كان عليه من ضمان الملك، فإنه لو تلف المبيع كان من ضمانه فالغلة له، ليكون الغنم في مقابلة الغرم([9]).

الحالة الثالثة: تغيّر محل عقد البيع بعد العقد وقبل القبض:

اختلف الفقهاء في هذه الحالة بناءً على اختلافهم في وقت انتقال الضمان من البائع إلى المشتري، هل يتحقق بمجرد العقد فيكون الضمان على المشتري؟ أم يتحقق بالقبض فيكون الضمان على البائع؟ رغم اتفاقهم جميعاً على أن هذا التغيّر لا يرجع بالبطلان على أصل العقـد:

فذهب فقهاء الحنفية([10]) والشافعية([11]) إلى أنّ التغير الحادث في المحل بعد العقد وقبل القبض يكون ضمانه على البائع، ويخيّر المشتري بين الرد وأخذ جميع الثمن، أو إمساك المبيع بجميع الثمن دون أخذ الأرش.

وذهب فقهاء المالكية([12]) والحنابلة([13]) إلى التفرقة بين المبيع الذي فيه حق توفية وإقباض، فيجعلون ضمان تغيّره على البائع، والمبيع الذي ليس فيه حق توفية وإقباض، فيجعلون ضمانه على المشتري، وأجاز الحنابلة أخذ المشتري الأرش على النقصان.

وذهب فقهاء الظاهرية إلى أن التغيّر الحاصل بعد العقد وقبل القبض من ضمان المشتري في كل مبيع بشكل عام؛ لأنّ ضمان المبيع انتقل إليه بالعقـد([14]).

الحالة الرابعة: تغيّر المقبوض أثناء مدة الخيار لأحد العاقدين أو لكليهما:

يعطي الخيار للعاقدين أو لأحدهما فرصة الرجوع عن البيع أو إتمامه إذا وجد أحدهما أن لا مصلحة له في البيع، وقد يطرأ على المبيع المقبوض خلال مدة الخيار تغيّرات مختلفة تفوّت المصلحة على المشتري في اقتناء المبيع، فما هي الآثار المترتبة عن هذا التغيّر؟

عند النظر في أقوال الفقهاء وكتبهم يظهر أنّ لهم رأيين في هذه المسألة:

حيث يرتب فقهاء الحنفية([15]) والشافعية([16])، هذه الآثار بحسب من له الخيار، فإذا كان الخيار للبائع وتغيّر المبيع في يد المشتري فإنّ البائع يُخيَّر بين إلزام المشتري بالبيع، أو فسخ العقد وتضمين المشتري النقص الحادث، أما إذا تغيّر المبيع في يد البائع، فيُخيَّر المشتري بين أخذه بجميع الثمن، أو فسخ العقـد، وإذا كان الخيار للمشتري وحدث التغيّر في المبيع فإنّ المشتري يسقط حقُّه في الرد، ويضمن التغيّر الحادث ويلزم برد الثمن كاملاً.

في حين يرى فقهاء المالكية([17]) والحنابلة([18])، أنّ الخيار إذا كان للعاقدين وحدث للمبيع تغيّرٌ في يد البائع، فضمانه عليه ويُلزَم المشتري بالبيع، وأما إن كان التغيّر قد حدث في يد المشتري فيُنظر: إن كان في المبيع حق توفيةٍ وإقباض فإنّ ضمانه على البائع، وللمشتري الرد، وإن لم يكن في المبيع حق توفيةٍ وإقباض فإنّ ضمانه على المشتري، وليس له الرد.

وذكر المالكية أيضاً أنّه إذا كان الخيار للمشتري فأحدث فيه تغيّرا، فهو بالخيار بين ردّه مع الأرش، أو إمساكه بدون الأرش، وأما إذا كان الخيار للبائع فأحدث المشتري فيه تغيّراً، فالخيار للبائع بين إمضاء البيع بالثمن، أو فسخ البيع مع الأرش.

  1. (1) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/272، وابن الهمام، فتح القدير، 6/306، والدسوقي، الحاشية، 3/147، والمواق، التاج والإكليل، 6/416، والقليوبي، الحاشية على شرح المنهاج، 2/263، والرملي، نهاية المحتاج، 4/77، والرحيباني، مطالب أولي النهى، 3/145، والمرداوي، الإنصاف، 4/419.
  2. (2) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/273، والسرخسي، المبسوط، 13/34، وابن الهمام، فتح القدير، 6/306.
  3. (3) انظر: الصـاوي، بلغة السـالك، 3/201، والخرشي، شرح مختصر خليل، 5/157، وعليش، منح الجليـل، 5/246.
  4. (4) انظر: النووي، روضة الطالبين، 3/466، والبجيرمي، الحاشية، 2/267، والجمل، الحاشية، 3/159.
  5. (5) انظر: المرداوي، الإنصاف، 4/415، وابن مفلح، الفروع، 6/225، والرحيباني، مطالب أولي النهى، 3/146.
  6. انظر: ابن حزم، المحلى، 7/271.
  7. انظر: ابن عابدين، حاشية رد المحتار 5/16، وابن نجيم، البحر الرائق، 8/14، والحطاب، مواهب الجليل، 4/392، والصاوي، بلغة السالك، 3/199، والشافعي، الأم، 3/74، والشربيني، مغني المحتاج، 2/429، والمرداوي، الإنصاف، 4/390، والرحيباني، مطالب أولي النهى، 3/114، وابن حزم، المحلى، 7/271.
  8. انظر: ابن حزم، المحلى، 7/271-272.
  9. انظر: الحموي، غمز عيون البصائر، 1/431، والقرافي، الفروق، 2/207، والسيوطي، الأشباه والنظائر، ص 525، وابن رجب، تقرير القواعد، ص 356.
  10. انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/241، والسرخسي، المبسوط، 12/206، وابن عابدين، حاشية رد المحتار، 5/16.
  11. انظر: الأنصاري، أسنى المطالب، 2/109، والجمل، الحاشية، 3/157، وابن حجر لهيتمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج، 4/387.
  12. انظر: الصاوي، بلغة السالك، 3/201، وعليش، منح الجليل، 5/233، والخرشي، شرح مختصر خليل، 5/157.
  13. انظر: الرحيباني، مطالب أولي النهى، 3/114، والمرداوي، الإنصاف، 4/415، والبهوتي، كشاف القناع، 2/496.
  14. انظر: ابن حزم، المحلى، 7/271.
  15. انظر: الزيلعي، تبيين الحقائق، 4/16، والعبادي، الجوهرة النيرة، 1/190-191.
  16. انظر: النووي، روضة الطالبين، 3/468، والرملي، نهاية المحتاج، 4/79.
  17. انظر: القرافي، الفروق، 3/283، وعليش، منح الجليل، 5/136.
  18. انظر: ابن قدامة، المغني،6/18، البهوتي، كشاف القناع، 2/509.

اترك تعليقاً