تفاوت مفسدات العقود في الشريعة (1)

تفاوت مفسدات العقود في الشريعة (1): (تأسيس أصولي لفقه المعاملات..) كتبه: أحمد الشافعي مهندس عقود- باحث شرعي المتأمل…

تفاوت مفسدات العقود في الشريعة (1):

(تأسيس أصولي لفقه المعاملات..)

كتبه: أحمد الشافعي

مهندس عقود- باحث شرعي

المتأمل في النصوص الحاكمة للمعاملات الإسلامية في الكتاب والسنةـ سيجد أن هذه النصوص متفاوتة في دجات ثبوتها ومراتب دلالاتها، فهل هذا التفاوت له أثر في الأحكام بحيث ينبغي على المجتهد أو المشتغل في هذا العلم أن يراعيه عند صناعة الحكم الشرعي، يعزز هذا الأمر أن النهي الذي جاءت به الشريعة الغراء ليس على وزان واحد في كل المنهي عنه، فأنت ترى تغليظ النهي عن الربا فمن له طاقة بمحاربة الله ورسوله؟، في حين أن النهي عن غيره جاء بلفظ أخف أو محتمل؛ لذلك فإن حديثنا هنا يدور حول سؤال مركزي، هو:

هل تَعتبر الشريعة التفاوت بين الأحكام، أو بين الأحكام المتشابهة كأحكام المنع أو الوجوب، أم أنها على درجة واحدة؟،

والجواب أن نقول:

لما كانت مصالح العباد متنوعة زمانًا ومكانًا، وقصد الشارع الحكيم من الشريعة ضبط هذه الأحكام وتحقيق مصالح المكلفين بها، ارتضت الشريعة لهذه الأحكام مقياسًا متفاوتًا بحسب جهات مختلفة، فكان الواجب والحرام والمباح والمكروه والمستحب من جهة الحكم الشرعي التكليفي، وكانت الصحة والبطلان من جهة الحكم الوضعي. وكذلك بالنسبة إلى الحرام فإنه متفاوت الدرجات، والواجب نحوه، وهذا يشبه الطيف متعدد الألوان فإن له ألوانًا رئيسة وكل واحد منها له درجات فرعية، فيمكن تشبيه تفاوت درجات التشريع بالطيف اللوني.

وكذلك المقاصد التي رامت الشريعة تحقيقها التي قد عُلم من الشريعة أنها أعظم المصالح وهي الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة، على أنها ليست تجري على وزان واحد كذلك، فإنا إذا نظرنا إليها وجدنا الدين أعظمها رتبة وأهمها رعاية، ولذلك يُهمل في جانبه: النفس والمال، وغيرهما.

ثم تَحُلُّ النفس ثانية، ولذلك يُهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل.

وكذا مقصد المال؛ فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به، فيعطيهم المال حفظًا للنفس، وهكذا في سائر المقاصد.

وكذلك في المفاسد والمعاصي ليست على وزان واحد، فقد تباينت المخالفات الدينية إلى كبائر وصغائر، وحتى الكبائر ليست على درجة واحدة فمنها الموبقات وما هو أخف منها، كما أن الجزئيات في الطاعة والمعصية ليست على وزان واحد؛ بل لكل منها مرتبة تليق بها. ([1])

قال ابن القيم: «‌فرتب ‌المحرمات أربع مراتب: وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريمًا وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا ‌تَصِفُ ‌أَلۡسِنَتُكُمُ ‌ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰل ٌوَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ﴾ [النحل: 116-117]  ([2])

وقد جاءت طبقة وسطى بين الحلال والحرام وهي الأمور المشتبهات كدرجة تمس الطبقة الأولى من جهة والثانية من جهة أخرى، وحتى هذه الشبهات ليست على وزان واحد، فمنها ما يجب اجتنابه فتلحق بالحرام. ومنها ما يستحب اجتنابه ولا يجب وهو الذي ينزل عليه قوله ﷺ: «دع ما يريبك إلى مالا يريبك» ويحمل هنا على نهي التنزيه. ومنها ما يكره اجتنابها دفعًا للوسواس والورع الكاذب، كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت من إنسان كان قد أخذه وملكه، وهذا وسواس يجب طرده. ([3])

وقد أوجب الشرع صلاة الفرائض، لكنه جعل قدرًا من النوافل والرواتب لمن أحب أن يزيد درجاته ويقدم خيرًا بين يدي ربه تعالى، وتنوعت درجات الصلاة على مقياس الحكم التكليفي بين فريضة العين وفريضة الكفاية والسنن الرواتب المؤكدة والتطوع المطلق. والأمر مثله في الصوم والزكاة.

وحرم الشارع قتل النفس، لكنه خالف في العقوبة والإثم بين قتل العمد وقتل الخطأ، وإن تساوت النتيجة التي هي إزهاق النفس.

وأما في المعاملات المالية، فإن الأمر فيها أظهر لأنها إنما جاءت مرتبطة بمصالح العباد المتغيرِ كثير منها بحسب الأحوال والأزمان والأماكن، وقد جاءت مرتبطة بمقاصد الشرع كحفظ المال، هي متفاوتة الدرجات، فتفاوتت المفسدات بقدر اعتبار الشرع لخطورتها وتهديدها لمصالح المكلفين وتأثيرها على البناء التشريعي الذي ارتضاه الشرع، فجعلت الفساد لا على درجة واحدة بل أن الفساد يوازن المفسد قدرًا وتمكنًا وأشخاصًا وزمانًا، لذلك كان الأصل في العبادات التوقيف وفي المعاملات الإباحة على ما استقر عليه الفقه الإسلامي.

ولو ألقينا نظرة إجمالية إلى وقوع هذا التفاوت، سنجد له مثلاً في ركن المعاوضات الأعظم وهو البيع، فإن أخذنا بالرأي الأوسع وهو الذي يعتبر البيع من الضروريات([4]) إذ به تقوم المعاوضات وتبادل الأموال بين الناس، وبمنعه تنحسم وتضيع، ولقيام مقصد حفظ المال نفسه عليه على نحو كبير([5])، فإن الإجارة من الحاجيات فهي في مرتبة تالية له في أهميتها النابعة من مدى اتكاء النوع الإنساني كله عليها وقيامه بها.

والبيع نفسه لا على وزان واحد، فهو وإن كان من الضروريات فهذا في جملته وأصله، لكن البيوع التي تقع بين الناس ليست على درجة واحدة من عناية الشريعة بها، فيأتي في المقام الأول بيع الطعام الذي به حياة الناس، لذلك حاطه الشرع بخصوصية منها قيود وشروط كالتقابض ومنع الاحتكار([6])، ومنع التفاضل فإن الأصناف الستة المعروفة في أحاديث الربا([7]) أغلبها من الطعام وتعليلات الفقهاء دارت حول علة الطعمية، والقوت والادخار، والقَدْر (الوزن والجنس) وأغلب هذا يتحقق في الطعام. كما قصر َ المالكية منع البيع قبل القبض على الطعام دون غيره، سواء أكان الطعام ربويا كالقمح، أم غير ربوي كالفاكهة.([8])

هذا بخلاف بيع التحسينات كأدوات الزينة والمشروبات المكيفة والغازية وأمثال ذلك، فإن بيعها ليس ضروريًا. ويلحق بالحاجي مكمل البيع مثل: خيار البيع، فإنه شرع للتروي، وإن حصل أصل الحاجة بدونه. ([9])

وعلى هذا، ينكشف أن البيع وإن كان ضروريًا في جملته إلا أن أفراده ليست على وزان واحد.

ويتحقق اعتبار الشريعة للتفاوت في اعتبار المالية في العقود، فانعدام المالية سبب لفساد العقود لذلك لما لم يعتبر الشرع الميتة والدم كمال متقوم شرعًا ومنع اتخاذها مبيعًا أو ثمنًا، كان تحريمها أشد من تحريم الخمر مثلاً، لأنه يجوز اتخاذها ثمنًا عند الحنفية إذ يرون ماليتها عند غير المسلمين. ([10])

ولو نظرنا كذلك إلى الربا كمفسد من مفسدات العقود لوجدنا أن الشارع الحكيم قد منع من كل صوره وشدّد النكير على من يأكله أو يساعد في إي إجراء لأكله من قريب أو بعيد، بل أعلن الحرب على من يفعل ذلك وهو ما لم يقع في سائر المفسدات، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ أن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ ‌فَأۡذَنُواْ ‌بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ﴾، [البقرة: 278-279].

وفي الصحيح عن جابر، قال: «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه»، وقال: «هم سواء». ([11])

فتلك حرب وهذه لعنة، فلا أشد، نسأل الله السلامة، لذلك تقرر أن الشبهة في باب الربا ملحقة بالحقيقة في التحريم، والاحتياط فيه أوجب من غيره. وأن الحاجة لا تؤثر في الربا وكذلك الحيل. ([12])

وتحريم بعض المعاملات للغرر ثابت، لكن الغرر ليس على درجة واحدة مع الربا، فالغرر أقل مفسدة من الربا، قال ابن تيمية: «ومفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس».([13])

والغرر نفسه ليس على وزان واحد، فالنهي إنما تعلق بكثيره دون قليله. وهو في التبرعات متسامح فيه بخلاف المعاوضات. ([14])

وأشار الشاطبي إلى «التفاوت الداخلي» للمفسد نفسه، فقسم بيع الغرر وفقًا لمفسدة العمل به على مراتب: منها مفسدة بيع حبل الحبلة فهي أشد من مفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن، ولا بيع الجنين كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة. ([15])

كذلك فساد المعاملة لانعدام المحل أو المعقود عليه أشد وأقطع من البيع المحرم للغرر، لأن الغرر يحتمل وجوده، والمعدوم لا يجتمل، فالغرر احتمالي وعدم الوجدان قطعي. ([16])

وكذلك الجهالة المفسدة للعقد، فقد أجاز الشارع الحكيم ما خفّ منها دون ما فحش وزاد، خوفًا من نشوء النزاع بين المسلمين.

وكل هذه البيوع بهذه الأوصاف من اختلال ركن أو جزئه أو فقد شرط وغير ذلك؛ منهي عنها، وبعضها يترتب عليها آثارها خلافًا للبعض رغم وجود النهي، لأن النهي يؤثر في الآثار بقدر قوته والتصاقه بذات البيع أو عينه وبعده عن ذلك، فليست آثار النهي سواء في تحققها في التصرفات.

ويمكن أن نجمل ونقول:

إن الشريعة اعتبرت التفاوت في الأحكام بحسب أهميتها التشريعية والمقصد الذي تروم المحافظة عليه من خلالها، فجاء تحريم المفسدات بقدر أهمية التكليف الذي تكر عليه بالإبطال أو التشويه والتحريف، وبقدر اتجاهها نحو عين البيع وأوصافه؛ لذا فالفساد ليس على درجة واحدة، وأوجه التفاوت واضحة مع التأمل والاستقراء وسيأتي بيانها بعدُ.

والأثر من وراء ذلك:

أن يدرك المشتغل في المعاملات المالية أو المصرفية أن درجات التحريم متفاوتة، وأن رعاية المشرع الحكيم لبعضها أشد من بعض، ومن ثم يتمكَّن من إدراك متى يُقدم الرخصة للمستفتي ومتى يؤخرها، ومتى يتوسع في الأمر ومتى يضيق، ومتى يبيح ومتى يحظر، تأسيسًا على إدراكه لهذا التفاوت ومقاصده.

  1. () الموافقات (2/ 512).
  2. () إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 73 ت مشهور).
  3. () إحياء علوم الدين (2/ 95).
  4. () جعله تاج الدين السبكي من الحاجيات، وكذلك في مراقي السعود. قال السبكي: « والحاجي ‌كالبيع والإجارة وقد يكون ضرورياً كالإجارة لتربية الطفل» تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/ 293). ونشر البنود على مراقي السعود (2/ 181). وجعله الشيخ عبد الله بن بيه: ضروريًا حاجيًا، فهو يرى أن العلاقة بين منظومات المقاصد هي علاقة اندماجية متداخلة لا تكاملية رأسية كما ذهب الشاطبي رحمه الله.
  5. () أشار الشيخ ابن بيه إلى أن تسمية المقصد بــ «المال» أفضل من تسميته بــ«حفظ المال» لأن له صورة إيجابية وصورة سلبية، فلا يكون حفظ المال مقصورا على جهة الحفظ من الاعتداء عليه بانتزاعه من يد مالكه، بل أيضا من جانب إنمائه.
  6. () إشارة إلى حديث صحيح رواه مسلم والترمذي، وغيرهما، وفي الترمذي: عن ابن عباس، أن النبي ﷺ قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه»، قال ابن عباس: «وأحسب كل شيء مثله» قال الترمذي: وفي الباب عن جابر، وابن عمر، وأبي هريرة: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا بيع الطعام حتى يقبضه المشتري، وقد رخص بعض أهل العلم فيمن ابتاع شيئا مما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب، أن يبيعه قبل أن يستوفيه، وإنما التشديد عند أهل العلم في الطعام، وهو قول أحمد، وإسحاق. «‌‌باب ما جاء في كراهية بيع ‌الطعام حتى ‌يستوفيه ت شاكر (3/ 578). صحيح مسلم، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (3/1162/1528).
  7. () صحيح: رواه مسلم، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (3/1211/1587): عن ‌عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله ﷺ: «‌الذهب ‌بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد».
  8. () بداية المجتهد لابن رشد (2 / 143) شرح مختصر خليل للخرشي (5/ 163).
  9. () بن بيه، مقاصد المعاملات ومراصد المواقعات (ص 89). الغيث الهامع شرح جمع الجوامع لأبي زرعة (ص577).
  10. () المبسوط للسرخسي (12/ 122).
  11. () صحيح: رواه مسلم، باب لعن آكل الربا ومؤكله (3/ 1219).
  12. () الموافقات (2/ 512). مجموع الفتاوى (15/18، 19).
  13. () القواعد النورانية (ص172).
  14. () مجموع الفتاوى (15/17).
  15. () الموافقات (2/ 512).
  16. () السابق.