|

توظيف الذكاء الاصطناعي كعامل مساعد في العبادات

د/ أحمد نبيل محمد الحسينان الأستاذ المشارك بقسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية بكلية الشريعة الدراسات الإسلامية-جامعة الكويت إن…

د/ أحمد نبيل محمد الحسينان

الأستاذ المشارك بقسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية بكلية الشريعة الدراسات الإسلامية-جامعة الكويت

إن الأمة الإسلامية كانت في مقدمة الأمم المتطورة في أغلب جوانب الحياة، ثم صارت بعد ذلك في مؤخرة الركب؛ وذلك لعدم استغلالها للطاقات البشرية التي من الله بها عليها، ولاعتمادها على غيرها من المجتمعات في توفير سبل التطور والراحة والرقي وغيرها من الأمور، ثم ظهرت بعد ذلك بعض الاجتهادات الحثيثة من أبناء هذه الأمة، للنهوض بهذه الأمة لمواكبة التطور؛ وبذلوا ما لديهم من وسع لتكون هذه الأمة في مقدمة الركب، فظهر ما يعرف بالذكاء الاصطناعي: وهو قدرة جهاز أو آلة ما على القيام ببعض الأنشطة العملية أو القولية التي تحتاج إلى ذكاء، مثل الإصلاح الذَّاتي والاستدلال الفعلي([1])، فكان لهذه الأمة نصيباً في استغلال هذا الذكاء بما يخدم الدين الإسلامي وليكون عاملاً مساعداً في العبادات، ومن تلك الأمور التي كان فيها الذكاء الاصطناعي عاملاً مساعداً في العبادات ما يأتي:

  • السجادة الذكية الرقمية (سجدة):

من أثار الذكاء الاصطناعي في الصلاة ما قام به المطور القطري عبد الرحمن خميس بابتكار السجادة الذكية الرقمية (سجدة)، وهي سجادة متطورة تحتوي على شاشة مخفية، تظهر من خلال هذه الشاشة أعمال الصلاة التي يجب القيام بها، ولا تقتصر هذه السجادة على بيان الصلاة المفروضة فقط، بل إنها تحتوي على 30 صلاة، كصلاة العيد وصلاة الكسوف والخسوف، وما يلحق بالصلاة من الأدعية والأذكار.

ومن الخصائص المضافة إلى هذه السجادة: المساعدة على قراءة القرآن لمن ليس قدرة على النطق باللغة العربية.

ولا شك بأن هذه السجادة وسيلة متطورة لتعليم الصغار ومن كان جاهلاً لصفة الصلاة، وذلك من خلال العمل بما يظهر في الشاشة المخفية على ما تقدم آنفاً. ([2])

ومع أن هذه السجادة وسيلة تعليمية لكيفية الصلاة إلا أنها قد اشتملت على عدد من الإشكالات الشرعية وهي ما يأتي:

  • أنها تَصرف المسلمين عن بذل الجهد في تعلم الصلاة وصفتها عن طريق طلب العلم الشرعي كحضور الدروس العلمية وقراءة الكتب الفقهية وغيرها من الوسائل التي لا يمكن الاستغناء عنها، فهي وسيلة تزهد المسلمين وتصرفهم عن طلب العلم الشرعي.
  • أن السبب الذي من أجله تم اختراع هذه السجادة الذكية هو تعليم الصلاة، وهذا السبب كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن القيام به بالوسائل المتاحة ككتابة صفة الصلاة في محل السجود على الأوراق أو الأكتاف أو سعف النخل، ومع ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو في صلاته، وإنما علم المسيء صلاته خارج الصلاة، ولهذا ذكر بعض العلماء قاعدة مفيدة وهي (كل شيء سببه موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، فالتعبد به بدعة) ([3]).
  • أنها سبب في انتفاء الخشوع في الصلاة؛ وذلك لانشغال المصلي بقراءة الفاتحة وتتبع الركوع والسجود عبر النظر إلى الشاشة المخفية، وهذا كله قد يكون سبباً في عدم تحقق الخشوع المرجو في الصلاة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بأن تزيل عنه الساتر الملون بعدة ألوان؛ لأنها أشغلته عن صلاته، فعن أنس بن مالك، كان قرام ([4]) لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي([5]).

وجه الدلالة: هو إزالة النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغله في صلاته؛ وذلك حرصاً على تحقيق الخشوع في الصلاة ([6]).

وبما أن الخشوع في الصلاة سنة عند جمهور الفقهاء ([7]) وواجب عند بعض الحنابلة ([8]) وركنٌ عند بعض المالكية ([9])، فإنه يكره استعمال السجادة الإلكترونية؛ خروجاً من الخلاف، فمن القواعد المقرر شرعاً: أن الخروج من الخلاف مستحب ([10])، وقد ذهب بعض الحنابلة إلى أنه يكره العمل بأمر وقع فيه الخلاف ([11]).

وأما إن كان الغرض من هذه السجادة الذكية هو تعليم الصغار وكل من يجهل صفة الصلاة فإنه يباح استعمالها إذا كان هذا التعليم خارج الصلاة وهذا قيداً مهم؛ وذلك لكونها وسيلة تعليمية مفيدة وليس فيها محظور شرعي، فهي وسيلة إلكترونية تحاكي الذكاء البشري، ونظيره ما تقدم ذكره من حديث المسيء صلاته، وقد كان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء خارج الصلاة.

  • مضخات الأنسولين المتطورة:

قد يقوم الذكاء الاصطناعي مقام الطبيب الحاذق الذي يترفق بمرضاه، ويكون ذلك بالمحافظة على صحة المصابين بمرض السكري حيث مكنهم من صيام عادي وآمن، وذلك من خلال الاعتماد على مضخات الأنسولين المتطورة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث إنه يتم ضخ الأنسولين في أوقات معينة يحصل من خلالها المحافظة على نسبة الأنسولين الطبيعية.

وتمت هذه التجربة الفريدة من نوعها عبر المستشفى الجامعي محمد السادس بوجدة في المملكة المغربية، وكانت هذه التجربة تحت إشراف طبي على مريضتين مصابتين بالسكري، فتمت هذه التجربة الناجحة قبل دخول شهر رمضان وذلك من أجل إعداد هذه المضخة الاصطناعية لمن أراد استعمالها في شهر رمضان([12]).

ولا يظهر في كل ما تقدم أي محظور شرعي في الاستفادة من هذا الذكاء الاصطناعي، إلا فيما يتعلق بالصورة الثالثة، حيث إنه يشترط ألا يترتب على استعماله ضرر، فإذا ترتب على استعماله وقوع الضرر من الناحية الصحية فإنه لا يجوز استعمال تلك المضخات الذكية؛ فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا ضرر ولا ضرار“([13]).

فالحديث يدل على تحريم الضرر أيا كان شكله؛ وذلك لأن الحديث فيه نفي الذات وهذا يدل على النهي عن هذا الشيء، والنهي هو طلب الكف عن الشيء([14]).

  • الروبوتات الذكية:

ومن صور الذكاء الاصطناعي التي ظهرت في مواسم الحج في السنوات الأخيرة في داخل الحرم المكي الروبوتات الذكية: وهي روبوتات تعمل بالذكاء الاصطناعي وعملها القيام بتطهير وتعقيم المسجد الحرام من دون الحاجة إلى تدخل بشري.

ولا شك أن هذا النموذج من الذكاء الاصطناعي يوفر على الدولة الكثير من المال والجهد، وفيه استغلال للتطور التكنولوجي على مختلف أشكاله، وقد تكون هذه الروبوتات أكثر انضباطاً وإتقاناً في العمل من البشر الذي قد يشوبه شيء من الكسل والتعب ([15]).

كما أنه يوجد نوع آخر من الروبوتات الذكية التي تقوم بتوجيه الحجاج وتعليمهم كيفية أداء المناسك بلغات متعددت دون حاجة إلى تدخل بشري، فهي بذلك قد فاقت الذكاء البشري وذلك بتنوع إيصال المعلومات بلغات عديدة ([16]).

وفي آخر مواسم الحج ظهرت نوعية من الحافلات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي دون الحاجة إلى التدخل البشري، والغرض من هذه الحافلات توصيل الحجاج وتنظيم تنقلاتهم بين الأماكن المقدسة ([17]).

فبناءً على ما سبق، فإن للذكاء الاصطناعي أثرٌ إيجابي في الحج، وأصبح كعامل مساعد في أداء هذه العبادة بكل سهولة ويسر، وذلك من خلال ما يأتي:

  1. أن الذكاء الاصطناعي كان له دورٌ في تنظيم دخول وخروج الحجاج والمعتمرين للحرم المكي؛ وذلك لكثرة المعتمرين والحجاج في السنوات الأخيرة، ولا شك بأن التنظيم التقني يوجه كافة الإمكانات التكنولوجية والتطور الصناعي إلى تحقيق الأهداف المرجوة منه، وهذا ما تم تحقيقه عن طريق الذكاء الاصطناعي، فمن خلاله تم حفظ المهج، وهذا يعد مقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية([18]).
  2. أن الإتقان في العمل والانضباط فيه، من الأمور التي يحبها الله عز وجل؛ وذلك لأن الإتقان في العمل من أسباب الرقي والتطور والنجاح، هذا فيما يتعلق بالمكلفين؛ فعن سيرين القبطية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن يتقنه“([19]).

وأما إذا وقع الإتقان من آلة توصف بالذكاء الاصطناعي فإنه لا شك سيكون سبباً في الرقي والتطور، ومن واقع التجارب فإن الآلات التي توصف بالذكاء الاصطناعي تفوق الذكاء البشري في العمل وأكثر إتقاناً منه، وهذا بلا شك سيكون عامل مساعد للبشر في أداء العبادة على أكمل وجه ([20]).

ومن تلك الآلات الروبوتات التي تقوم بتنظيف وتعقيم المسجد بكل إتقان، كما أنها تقوم بتوجيه الحجاج وتعليمهم كيفية أداء المناسك بلغات متعددت من دون حاجة إلى تدخل بشري.

وفي الختام:

أحمد الله على نعمة الإتمام، وأسأل الله العظيم أن يمن علينا بنعمة القبول والإخلاص، ثم يطيب لي في النهاية ذكر ما توصلت إليه من النتائج وهي ما يأتي:

  1. أن الذكاء الاصطناعي صار أمراً واقعاً، لا يستغنى عنه في كثير من المجالات، فينبغي استغلالها وتوظيفها في خدمة الدين عموماً وفقه العبادات خصوصاً.
  2. الأصل في توظيف الذكاء الاصطناعي فيما فيه نفع للبشرية الإباحة.
  3. أنه يكره استعمال السجادة الإلكترونية في الصلاة، ويجوز استعمالها إذا كان الغرض منها تعليم الصغار ومن كان جاهلاً بصفة الصلاة إذا كان الاستفادة منها خارج الصلاة؛ وذلك لكونها وسيلة تعليمية مفيدة.
  4. جواز الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في عبادة الصيام عموماً وفي شهر رمضان خصوصاً وخاصة فيما يتعلق بالجوانب العلمية كالإفتاء والصحية وغيرها من الجوانب.
  5. ظهور أثر الذكاء الاصطناعي في مواسم الحج المتعاقبة وجواز الاستفادة منه في عدة أمور منها: التعقيم والتوجيه والتنظيم.
  1. () أحمد مختار عبد الحميد عمر. معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلد: 1، الصفحة: 818.
  2. () سناء الخوري. سجادة صلاة ذكيّة: السجود والقيام في الزمن الرقمي. تم نشرها 18/11/2020م وتم النقل منها في 4/6/2023مhttps://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-54935670]
  3. () محمد بن صالح بن محمد العثيمين. الشرح الممتع على زاد المستقنع، المجلد: 5، الصفحة: 12.
  4. () القرام: بكسر القاف: هو ساتر رقيق يكون من صوف ذو ألوان. بدر الدين العيني. عمدة القاري شرح صحيح البخاري. دار إحياء التراث العربي – بيروت، المجلد: 4، الصفحة: 96.
  5. () محمد بن إسماعيل البخاري. صحيح البخاري. باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير، هل تفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك؟، المجلد: 1، الصفحة: 84، رقم الحديث: 374.
  6. () بدر الدين العيني. عمدة القاري شرح صحيح البخاري، المجلد: 22، الصفحة: 74.
  7. () أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. دار الكتب العلمية، بيروت- الطبعة الثانية: 1986م، المجلد: 1، الصفحة: 215، أحمد بن غنيم النفراوي. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني.دار الفكر- بيروت: 1415ه، المجلد: 1، الصفحة: 123، محمد الزهري الغمراوي. السراج الوهاج على متن المنهاج. دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت، الصفحة: 51. موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة. الكافي في فقه الإمام أحمد. دار الكتب العلمية، بيروت: الطبعة: الأولى: 1994م، المجلد: 1، الصفحة: 263.
  8. () منصور بن يونس البهوتي. كشاف القناع عن متن الإقناع. دار الكتب العلمية/ بيروت. المجلد: 1، الصفحة: 392.
  9. () أحمد بن غنيم النفراوي. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني. دار الفكر- بيروت: 1415ه. المجلد: 1، الصفحة: 123.
  10. () عبد الكريم زيدان. الوجيز في شرح القواعد الفقهية. مؤسسة الرسالة- بيروت، الصفحة: 184.
  11. () محمد بن صالح بن محمد العثيمين. الشرح الممتع على زاد المستقنع، المجلد: 1، الصفحة: 33.
  12. () يوسف يعكوبي. فريق طبي بمستشفى وجدة يُنجِح تجربة صيام رمضان لمرضى “السكري الأول”. مجلة هسبريس الإلكترونية.https://www.hespress.com/فريق-طبي-بمستشفى-وجدة-يُنجِح-تجربة-صيا-1181284.
  13. () أحمد بن حنبل. مسند الإمام أحمد بن حنبل. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية :1420ه، المجلد: 5، الصفحة: 55، رقم الحديث: 2856.
  14. () محمد بن إسماعيل الأمير الكحلاني الصنعاني. سبل السلام. مكتبة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الرابعة، المجلد: 4، الصفحة: 84.
  15. ()عبد الله موسى. الذكاء الاصطناعي ثورة في تقنيات العصر، الصفحة: 28.
  16. () إسراء تيسير. الحج في زمن الذكاء الاصطناعي. جريدة الجريدة/ مصر. تاريخ النشر: 27/06/2023م، تاريخ النقل: 01/07/2023م.
  17. () جريدة سهم، وزير
  18. () أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي. أنوار البروق في أنواء الفروق. تحقيق: عمر القيّام. (مؤسسة الرسالة، بيروت: 2003م)، الطبعة الأولى، المجلد: 2، الصفحة: 433.
  19. () سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني. المعجم الكبير. مكتبة العلوم والحكم – الموصل. تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي. الطبعة: الثانية، المجلد: 24، الصفحة: 307.، وقال الألباني: إسناده رجال موثقون غير محمد بن عمر وهو الواقدي فإنه ضعيف جدا. محمد ناصر الدين الألباني. السلسة الصحيحة. مكتبة المعارف/ الأردن، المجلد: 1، الصفحة: 187.
  20. ()عبد الله موسى. الذكاء الاصطناعي ثورة في تقنيات العصر، الصفحة: 28.