|

عقد التوريد وبيعة أهل المدينة

عقد التوريد وبيعة أهل المدينة عبد الله نوري باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية بجامعة وهران 1، الجزائر مدرب…

عقد التوريد وبيعة أهل المدينة

عبد الله نوري

باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية بجامعة وهران 1، الجزائر

مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية بنادي الاقتصاد الإسلامي بجامعة الكويت

من القضايا المستجدة في الواقع المعاصر ما يسمى بعقود التوريد، حيث اشتدت وتزايدت الحاجة إلى هذه العقود بشكل كبير ومتسارع وذلك بسبب التطور الرهيب في مجال الصناعة والزراعة والتجارة والعمران… فنجد حضورا لعقد التوريد في جميع هذه المجالات وبصورة لا يمكننا الاستغناء عنها سواء على مستوى الأفراد أم الشركات أم الدول، فما هو عقد التوريد؟ وعلى أي مسألة فقهية يمكننا تخريجه؟ وهل يمكننا تفادي الإشكالات التي تطرح على هذا العقد؟

عقد التوريد هو: “اتفاق بين شخص معنوي من أشخاص القانون العام وبين فرد أو شركة، يتعهد بمقتضاه الفرد أو الشركة بتوريد منقولات معينة للشخص المعنوي لازمة لمرفق عام مقابل ثمن معين”[1] وهذا تعريف قانوني لعقد التوريد أوردته من باب أن أكثر التطبيقات له في العقود الإدارية فاهتم القضاء الإداري بتعريفه.

ويمكننا تعريفه من الناحية الفقهية بقولنا: “عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة، بصفة دورية، خلال فترة معينة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه”[2].

وعقد التوريد من العقود المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها في المعاملات المعاصرة؛ فهو من الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة، وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي بعدم جوازه بالصيغة الحالية التي شملت مخالفات شرعية أهمها: ابتداء الدين بالدين، أما إن توفرت فيه شروط السلم إن لم يكن محل عقد التوريد سلعة تتطلب الصنعة فالقول بجوازه، وإلا فهو استصناع جائز على قول الأحناف[3].

ولا شك أن القول بالتحريم فيه من المشقة والحرج ما فيه، والقول بالجواز مع التخريجات المتكلفة والتأويلات الممحلة والتشكيك في صحة الإجماع على منع بيع الدين بالدين غير مقنع، وعندما نقرأ في التراث الفقهي للمالكية نجد في فروعهم ما يسمى ببيعة أهل المدينة، فما صورتها؟ وهل يمكن التخريج عليها؟

بيعة أهل المدينة هي بيعة أجازها مالك وغيره من علماء المدينة المنوّرة، فقد جاء في المدونة: “وسئل مالك عن الرجل يبتاع بأربعين دينارا من رطب حائط ما يجني كل يوم يأخذه بحساب ثلاثة آصاع بدينار.

قال: قال مالك: لا خير في هذا إلا بأمر معروف ويبين ما يأخذ كل يوم.

قال: قد كان الناس يبتاعون اللحم بسعر معلوم، فيأخذ كل يوم وزنا معلوما، والثمن إلى العطاء، فلم ير الناس بذلك بأسا.

واللحم كل ما يباع في الأسواق مما يتبايع الناس به فهو كذلك، لا يكون إلا بأمر معروف، ويبين ما يأخذ كل يوم، وإن كان الثمن إلى أجل معلوم، أو إلى العطاء، إذا كان ذلك العطاء معلوما مأمونا، إذا كان يشرع في أخذ ما اشترى، ولم يره مالك من الدين بالدين.

قال مالك: ولقد حدثني عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلا بدينار، يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك دينا بدين، ولم يروا به بأسا”[4].

وعليه فيمكن تخريج عقود التوريد على بيعة أهل المدينة، فعلة الجواز فيها هي حاجة الناس إليها وهي قائمة في عقد التوريد، ووجه هذا التخريج أن تأجيل البدلين في عقد التوريد يمكن أن يقال بجوازه تخريجا على القول بجواز تأجيل العوضين في الشراء من دائم العمل في بيعة أهل المدينة.

وقد نُص على هذا في المعتمد من المذهب، قال العلامة الزرقاني في شرحه على خليل: “(وجاز الشراء من دائم العمل كالخباز وهو بيع (و(جاز (الشراء من دائم العمل) حقيقة، وهو من لا يفتر عنه غالبًا، أو حكمًا ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده فيشبه تعيين المعقود عليه حكمًا في الصورتين، فعلم أنه لابد من وجود المبيع عنده، أو كونه من أهل حرفته، والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام، أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينًا، وليس لأحدهما الفسخ في الأولى دون الثانية، وشملهما تمثيله بقوله ( كالخباز) والجزار بنقد وبغيره، لقول سالم بن عمر: كنا نبتاع اللحم من الجزارين، أي بالمدينة المنورة، بسعر معلوم كل يوم رطلين، أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن من العطاء معروفًا، أي ومأمونًا، ولا يضرب فيه أجل لأنه بيع كما قال (وهو بيع) فلا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل الثمن فيخالف السلم في هذين، وفي فسخ العقد بموت البائع في الصورة الثانية لا الأولى، وفي كيفية الشراء، وفي أنه يشترط هنا الشروع في الأخذ ولو حكمًا كتأخيره خمسة عشر يومًا، واستخفوا ذلك للضرورة، فليس فيه ابتداء دين بدين”[5].

قال العلامة أبو عبد الله محمد الرعيني الحطاب: “هذه تسمى بيعة أهل المدينة لاشتهارها بينهم. . . وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله. . . وإجازة ذلك مع تسميته الأرطال التي يأخذ منه في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين [هما: الشروع في قبض أوله، وأن يكون أصله عند البائع] هو المشهور في المذهب”[6].

وقد قدّم الدكتور عبد الرحمن اجّاه أبّوه مخرجا[7] لا يدخل معه عقد التوريد في بيع الدين بالدين، وذلك بناء على قاعدة أن قبض الأوائل قبض للأواخر، حيث يقدّم المشتري جزءا من ثمن السلعة محل التوريد ولو يسيرا قد لا يصل إلى 2% من الثمن المؤجل، وبذلك تخرج المسألة من كونها ابتداء الدين بالدين المجمع على تحريمه.

وأيّد مخرجه هذا بقول الإمام أشهب: إنما الدين بالدين ما لم يشرع في قبض شيء منه”، ونقل كلاما عن الإمام ابن رشد الحفيد، وعن العلامة الدسوقي. وأوضح أن هذا المخرج الجديد له نظائر في المذهب المالكي تعضده وتشهد له، وساقها مستوفاة.

والذي أميل إليه أن تخريج عقود التوريد على بيعة أهل المدينة له حظ من النظر عميق، وخروجا من شق عصا الإجماع على حرمة بيع الدين بالدين يُعمل بالمخرج الذي اقترحه الدكتور عبد الرحمن اجّاه أبّوه، وهو سهل ميسور ويوصل إلى القول بجواز عقد التوريد، من غير خرق للإجماع، ولا لجوء إلى تأويلات متكلفة تخالف الأصول وتكسر القواعد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

  1. سليمان محمد الطماوي؛ الأسس العامة للعقود الإدارية، ص135.
  2. مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي (العدد الثاني عشر ج2، ص 391).
  3. ينظر: قرار رقم: 107 (1/12) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي (العدد الثاني عشر ج2، ص 391).
  4. المدونة الكبرى (3/315).
  5. شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل: 5 / 221.
  6. الحطاب الرعيني؛ منح الجليل شرح مختصر خليل، (11/342).
  7. ينظر: مجلة الشهاب، جامعة الوادي، الجزائر، مجلد: 07، عدد: 01، (2021)، ص 187-190.

اترك تعليقاً