|

مقاصد الوقف العام وعلاقتها بالتنمية ومحاربة الفقر

مقاصد الوقف العام وعلاقتها بالتنمية ومحاربة الفقر عبد الله نوري باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة…

مقاصد الوقف العام وعلاقتها بالتنمية ومحاربة الفقر

عبد الله نوري

باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة وهران 1، الجزائر

مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية لدى نادي الاقتصاد الإسلامي، جامعة الكويت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الوقف تشريع إسلامي أصيل، يستمد مشروعيته من السنة النبوية القولية والفعلية وعموم آيات الذكر الحكيم. ينتمي أصالة في الشريعة الإسلامية إلى قسم (القربات)، بل هو من أحسن القربات، إذ هو المعني في الحديث الشريف بـ (الصدقة الجارية)، ولا تكون جارية بعد الموت إلا بالوقوف، ولما كانت لفروع هذا الدين مقاصد وغايات، ومصالح وأبعاد تنطلق عبرها هذه الأحكام وفق شريعة الله المبنية على الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح رحمهم الله تعالى لزم الكشف عن هذه المقاصد وتأصيلها، لتُنزّل الأحكام وفق مقاصدها التي شرعت لتحقيقها، فتناول الوقف بهذا النوع من الدراسات مما يحقق فوائد جليلة على مستوى حسن الفهم والتصور لأحكام الوقف، وعلى مستوى إتقان تنزيلها وتفعيلها، واختيار الحلول المناسبة والبدائل النوعية القيمة التي تتحقق بها مقاصده وغاياته.

الكشف عن مقاصد الوقف:

مقاصد الوقف تعود إلى أصولها، وهذه المقاصد في مجملها هي: مجموع حكم الوقف وأسراره وغاياته، كتحقيق العبودية والامتثال وجلب مرضات الخالق، وتحقيق الكليات الخمس، وسد الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والتقدم المعرفي والتكافل الاجتماعي والإسهام الحضاري وتقويه جناب الأمة وإبراز شهودها العالمي فضلا عن إدامة الوقف وتفعيله وتعديته وتعميمه، مما يجلي مقصوده العظيم المتصل بالنفع العام والإصلاح الشامل وجلب سعادة الدارين.

مقاصد الوقف العام:

  1. تحقيق عبودية الله تعالى، وتقرير الامتثال له[1]

وهذا المقصد هو بمثابة المقصد الأعلى والجامع لكل ما يليه من المقاصد والغايات والأهداف. وهذا مستفاد من حقيقة الإسلام التي تقرر أصلية العقدة والعبودية والامتثال لكل ما يتفرع ويتوزع من الأحكام والأعمال والأحوال، قال تعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين ” [الفاتحة، 5]، وقال عزمن قائل: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ” [الذاريات، 56]، وقال جل شأنه: ” بل الله فاعبد وكن من الشاكرين “ [الزمر، 66].

  1. تقرير جريان الأجر بعد الموت والترغيب في فعل الخير

والوقف من القرب العالية والطاعات الجليلة التي يبلغ العبد بها رضوان الله والجنة بعدم انقطاع أجره بموته، قال ابن عبد البر: “وهذا من فضل الله على عباده المؤمنين أن يدركهم بعد موتهم عمل البر والخير بغير سبب منهم..”. [2]

  1. حفظ الدين:[3]

وذلك من جهتين اثنتين: الأولى: تتعلق بتطبيق الوقف نفسه، باعتباره أحد تكاليف هذا الدين؛ والثانية: وتتعلق بالأوقاف ذاتها: كالوقف على المساجد والمدارس القرآنية والجامعات الشرعية، ببنائها وتأثيثها ورعايتها، والوقف على أهل العلم وطلابه والفقهاء والقراء والمؤذنين والوعاظ والدعاة والمفتين، فكلها تخدم الدين في صميمه وحقيقته.

  1. حفظ النفس[4]

بحفظ حياتها وصحتها وأمنها الغذائي والمادي، وذلك بوقف المستشفيات وتمويلها، والوقف على تطوير العلوم الطبية وتقديم الخدمات المائية والطعام.

  1. حفظ العقل[5]

بحفظه من معوقات ومبطلات رسالته في العلم والنظر والفهم والترجيح والاجتهاد والابتكار إيجادا وعدما، كالوقف على أهل العلم والفكر، ومؤسسات التدريس والتعليم، وهيئات التنظير ومراكز البحث وتكوين الملكات العقلية وتطوير المهارات الذهنية، ومن ذلك كذلك الوقف على الإعلام والمعلوماتية التي تواجه حركات التجهيل والدجل.

  1. حفظ النسل والنسب والعرض[6]

من خلال تسخير الأعمال الوقفية القائمة بتحقيق هذا المقصد، كأوقاف الأسر والأطفال واليتامى والأرامل وأصحاب العوز والحاجة. وربما تتجه الإدارة أكثر نحو تخصيص ريع بعض الوقف للمقبلين على الزواج، تيسير لهذا الزواج، وإيجادا لأسر جديدة تعزز دور المجتمع المسلم في المحافظة على دينه وعرضه وأمنه الخلقي والحضاري.

  1. حفظ المال وتنميته واستثماره[7]

وذلك بما يقوي جانب المسلمين المالي والمادي والتقني، وبما يسد الضروريات ويقضي الحوائج ويجنب الخصاصة والفقر والمرض والجهل وغير ذلك مما ينجم عن عدم المال أو قلته. ومعلوم أن المجال المالي للأعمال الوقفية مجال رحب وفسيح، يعد بالخير والسعادة، ويبشر بأقدار كبيرة في الاستقلال المالي والتمكين الاقتصادي الذي سيكون له أثره في التمكين العام والأمن الشامل. وحفظ أصول الأموال من الضياع من أبرز مقاصد الشرع في المجال الوقفي المالي، إذ تبقى الأصول تدر بمنافعها وخيراتها، وتبقى الأعيان محفوظة، لا تباع ولا توهب ولا تورث، لا تأتي عليها النفقات والمصروفات واستهلاك ريعها وعائدها، وهذا من أجلى مظاهر الاقتصاد وتطوره وتقدمه وثباته.

  1. تحقيق معنى الاستخلاف في الأرض وإعمارها[8]

قال تعالى: ” آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه “ [الحديد،7]، وقال عز وجل: ” هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها “ [هود، 61].ويتحقق هذا المقصد من خلال فعل الوقف الذي يعد جزءا من رسالة استخلاف الإنسان في الأرض، فقد أراد الله تعالى أن يكون الوقف الشرعي أحد تكاليف هذه الرسالة، فيكون الفاعل له فاعلا لعمل من أعمال هذه الرسالة، كما يتحقق هذا المقصد من خلال الأوقاف الموجهة لإعمار الأرض، كأوقاف المزارع والمصانع والعمائر، بوقف أعيانها والإفادة بمنافعها، وهو ما يسهم بوجه ما في الاستخلاف والإعمار والبناء والإنتاج.

ومعلوم أن من أوجه الاستخلاف: العمل والإنتاج المادي، إضافة إلى الإنتاج الروحي. ويشكل الوقف بأعماله المختلفة ونشاطاته المبتكرة ميدانا رحبا لمعنى الاستخلاف في الأرض وإعمار الحياة وتعمير الآخرة بالخير والثواب وحسن الجزاء.

  1. إيجاد صرف دائم ونفع مستمر للمحتاجين

وهذا المقصد يتجاوز مقصد سد الحاجات الآنية أو المطالب الملحة الواقعة في فترة أو برهة من الزمن، وإنما يحقق المعالجة الدائمة للحاجة والفاقة، بموجب تنمية الموقوف واستثماره وتكثيره، ليساير متطلبات الحياة، وفقا لقانون الداخل والخارج في مجال الكسب والإنفاق. وميزة دوام الصرف والنفع في الوقف يعبر عن طبيعة هذا الوقف، وعن مخالفته لأوجه العطايا الطوعية الأخرى، كالصدقة والهبة والهدية.

  1. تعميم النفع وتوسيع دائرته وتكثير أصنافه وتعديد مجالاته

وهو ما يعرف بتعدية مصالح الوقف وعدم قصرها على أفراد معينين أو حصرها في أنواع الوقف، دون قصر أو حصر، بل يرد في مقابلة وموازاته ما يعرف بالوقف على جهة عامة أو جماعة كثيرة. ومعلوم أن الشرع يتشوف إلى جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، كما علم أن النفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، وأن كلا من الوقف الذري والوقف الخيري مشروع لمصالحه المعتبرة وحكمه البالغة، وهذا كله لا يعارض تشوف الإسلام لتعدية المصالح وتعميمها. وهو ما جعل أهل الإنصاف والموضوعية يشهدون لإنسانية الوقف الإسلامي، وشموله لأوجه خيرية كثيرة، في الداخل الإسلامي وفي الخارج.

  1. تقوية الروابط بين الأقارب وأولي الأرحام

وتحقيق ما يترتب على ذلك من مقاصد التعاون والتواصل والتراحم، ومن التقوّي -بالمعروف- برابطة الدم على نوائب الحياة وشدائد الزمن.

  1. إحياء روح التكافل في المجتمع

وذلك بتعزيز الروابط بين الطبقات المحتاجة والفقيرة.

  1. حفظ كرامات المجتمع

وخاصة الفضلاء والمتعففين من الاستجداء والتزلف للأغنياء، مما ينتج عنه عزة النفس واستقلال الفكر وقيام الكرامة.

  1. تحقيق صيانة الأعيان من عبث السفهاء

إذ كثيرا ما يلجأ هؤلاء السفهاء إلى تبديد الأموال المنقولة إليهم، ولذلك تُوقَف هذه الأموال، لينتفعوا بريعها، وتبقى أصولها تدر عليهم بخيرها وعائدها.

  1. تقوية الحركة العلمية والثقافية[9]

وتحقيق ما يبنى على ذلك ممن تقدم مادي وعمراني وأدبي وروحي، والحفاظ على هيبة العالم، واستقلال الفقيه في قول الحق وإقرار المعروف وإدامة العدل في القول والعمل والسلوك والحكم. وفي التاريخ المعاصر استطاعت الأوقاف الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى أن تحفظ لمسلمي فلسطين استقلالهم في مواجهة الأحداث الدامية.

وبهذا أكون قد أتيت على معظم مقاصد الوقف العام، ليتم استثمارها في مقال لاحق بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.

  1. نور الدين مختار الخادمي، “المقاصد الشرعية للوقف الإسلامي تأصيلا وتنظيرا“، (ورقة مقدمة إلى المؤتمر الثالث للأوقاف بالمملكة العربية السعودية الوقف الإسلامي “اقتصاد، وإدارة، وبناء حضارة” بالجامعة الإسلامية، 2009م)، ص 903.
  2. يوسف ابن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1387هـ)، ج8، ص426.
  3. انتصار عبد الجبار مصطفى اليوسف. المقاصد التشريعية للأوقاف الإسلامية، (الجامعة الأردنية: كلية الدراسات الإسلامية، 2008م)، ص47.
  4. المرجع نفسه، ص53.
  5. المرجع نفسه، ص67.
  6. الخادمي، المقاصد الشرعية للوقف الإسلامي، ص904.
  7. محي الدين القره داغي، الإطار الشرعي للوقف ومقاصده العامة -دراسة فقهية تأصيلية– (المكتبة الإلكترونية، 1432هـ)، ص44.
  8. عبد الرحمن قصاص، المقاصد الشرعية والأبعاد المصـلحية لنظام الوقف في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية (المكتبة الإلكترونية، 1425هـ)، ص7.
  9. سليمان أبو الخيل، الوقف وأثره في تنمية موارد الجامعـات، (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 2004م)، ص311. (بتصرّف)

اترك تعليقاً