مقاصد تفاوت العقود في الشريعة (2):
مقاصد تفاوت العقود في الشريعة (2): (تأسيس أصولي لفقه المعاملات). كتبه: أحمد الشافعي مهندس عقود- باحث شرعي لو…

مقاصد تفاوت العقود في الشريعة (2):
(تأسيس أصولي لفقه المعاملات).
كتبه: أحمد الشافعي
مهندس عقود- باحث شرعي
لو كانت أحكام الشريعة كلها على خطٍّ واحد من الشِّدِّة وعلى درجة واحدة من النَّسَق التشريعي لأصاب الناس عناء ومشقة صرَّحت الشريعة أنها إنما أرادت رفعهما وابتغت خلافهما من اليسر ورفع الحرج، لذلك تفاوتت درجات النهي ودلالاته، فكانت هناك كبائر وصغائر، والكبائر منها الموبقات والأخف منها. وكان هناك محرمات لذاتها ومحرمات لغيرها.
وفي العقود ثمة تفاوت في تأثير المفسدات بين إبطال تام ونهائي، وإبطال مؤقت متوقف على الإجازة، أو إلى تعليق العقد أو سلب لزومه.
ومن أهم مقاصد الشرع في هذا التفاوت:
أولاً: مراعاة فلسفة التشريع ومقاصده:
مراعاة مصالح عامة المكلفين وفقًا لفلسفة الشريعة ومقاصدها، فأبطل الشارع الحكيم العقد المتضمن للربا أو الغرر الكثير المتمكن، أو الجهالة الفاحشة، ولو تراضى المتعاقدان، لكنه تجاوز عن الغرر القليل والجهالة اليسيرة، وإن كان في ذلك ظلم أو ضرر يسير، تيسيرا ورفعًا للحرج، لأن ذلك لا يأتي بالبطلان على مقاصد الشرع، ولو لم يكن ثمة مراعاة للتفاوت لأبطلت الشريعة العقد لأدنى مخالفة ولم تغتفر اليسير.
ثانيًا: مراعاة طبائع الأشياء وسننها:
مراعاة الشريعة لطبائع الأحياء والأشياء، فالتفاوت متحقق في الأماكن، والأزمان، ودرجات الخير والشر، وحتى في عباد الله المخلصين من الرسل فقد فضل الله بعضهم على بعض، وعليه فقد حققته الشريعة في الأحكام والتكاليف، فليس النهي عن بيع الخمر وثمنها مثلاً بقوة النهي عن البيع أثناء أذان الجمعة، وعليه؛ فالأثر المترتب على النهي عن بيع الخمر وهو متعلق بذاتها وهو البطلان، يختلف عن الأثر المترتب على البيع عند نداء الجمعة وهو الصحة مع الكراهية؛ لأن النهي هنا يتعلق بعلة خارجية أو وصف مجاور -وهو الحرص على السعي إلى الجمعة- لا بذات التصرف كما في الخمر. ([1])
ثالثًا: الحفاظ على ثبات الأموال واستقرار المعاملات:
وهذا هو الهدف الأهم من جهة العقود والنظر التشريعي، فوجود التفاوت في صحة العقود ودرجات ما يؤدي إلى بطلانها أو فسادها أو قُلْ عدم ترتب آثارها عليها، يعطي قدرا كبيرًا من المرونة التي تسمح للمعاملات بالاستقرار وللعقود بالاستمرار، ومن ثم يكتسب الأشخاص طبيعيين كانوا أو اعتباريين مساحة واسعة من المرونة التعاقدية وقدرا كبيرا من التيسير عليهم في تعاملاتهم الدورية. فالقول بأن العقد الفاسد يستمر ويتمكن بالقبض على قول الحنفية أو بالقبض وعدم الفوات على قول المالكية يعطي مثل هذه المرونة ويوفر هذا استقرار الأموال في أيدي المتعاملين، واستمرار تداولها إذا شعروا بالثقة والأمان وعدم الخوف من فوات الأموال.
رابعًا: تحقيق مبدأ «التناسب بين الخطأ والجزاء»:
أو بين الجريمة والعقوبة: فالمفسد الذي يأتي به العاقد هو إخلال بمفردة من مفردات العقد إخلالا مؤثرًا، وهي ليست سواء من حيث أثر الإخلال بها، إذ تختلف آثارها باختلاف متعلَّق النهي الذي جاء به الشرع ومقصده فيه، وكذلك من حيث علة النهي وأسبابه قوة وضعفًا، من جهة، ومن جهة أخرى فمن حيث التصرف الذي جعله الشرع سببًا ووسيلة لغاية معينة مقصودة من تشريع هذا التصرف وهي مصالح المكلفين، ولما كانت هذه الحيثيات المذكورة متفاوتة لم يكن البطلان هو الأثر الوحيد المترتب على المخالفة العقدية المؤثرة، بل ثمة فساد وإيقاف وتخيير.
وقد أشار الدكتور علي محمد بورويبة إلى هذه المخالفات في أربع درجات([2]):
- البطلان: فإذا كانت المخالفة لنظام التعامل واقعة في ناحية أساسية، يكون الإلغاء كليا، ويسمى المؤيّد عندئذ: بطلانا.
- الفساد: وإذا كانت المخالفة في ناحية فرعية، يكون الإلغاء جزئيا من بعض الوجوه، ويسمى المؤيّد عندئذ: فسادا.
- التوقف: وإذا كان التصرف يمس حقا محترما للغير، كمن باع مال غيره بلا إذنه، فإن العقد يكون معتبّا في ذاته إذا استوفى شرائطه، لكنه متوقف من حيث الحكم والثمرة حتى يرضى صاحب الحق الممسوس، أو يرفض، ويسمى المؤيّد عندئذ: توقّفا.
- التخيير: وإذا كان في التصرف إخلال بالتوازن العقدي الواجب بين حقوق المتعاقدين المتقابلة، بحيث يكون مظنّة لطغيان مصلحة أحدهما على مصلحة الآخر دون تحّقق رضاه، فإن المؤيّد الضامن لإعادة التوازن أو سلامة الرضا يكون بمنح الطرف الذي تعّرض حّقه للضرر خيارا في فسخ العقد أن شاء، ويسّمى المؤيّد عندئذ: تخييرًا.