مقصد دفع الغرر عن المكلفين وأثره في عقود المعاوضات

مقصد دفع الغرر عن المكلفين وأثره في عقود المعاوضات عبد الله نوري باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية بجامعة…

مقصد دفع الغرر عن المكلفين وأثره في عقود المعاوضات

عبد الله نوري

باحث في مقاصد الشريعة الإسلامية بجامعة وهران 1، الجزائر

مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية بنادي الاقتصاد الإسلامي بجامعة الكويت

الغرر في اللغة الخطر، وهو الذي لا يُدرى أيكون أم لا؟، ويقال: غرر بنفسه وماله تغريرا؛ عرّضهما للهلكة من غير أن يعرف، والاسم الغرر[1].

وأما في الاصطلاح: فهو ما يكون مستور العاقبة[2]، أو مجهول العاقبة[3].

والغرر يدخل في المعاوضات من أوجه: إما من جهة الجهل بتعيين المعقود عليه، أو تعيين العقد، أو من جهة الجهل بوصف الثمن والمثمون: المبيع، أو بقدره أو بأجله إن كان هناك أجل، وإما من جهة الجهل بوجوده أو تعذر القدرة عليه، وهذا راجع إلى تعذر التسليم، وإما من جهة الجهل بسلامته أي بقائه[4].

ونستدل على مقصدية دفع الغرر عن المكلفين بمنظومة استدلالية نتشوف من خلالها إلى تحقيق القطع لهذا المقصد، من ذلك ما ورد في السنّة من نهي عن البيوع التي توجد بها أوجه الغرر المذكورة سلفا، نورد منها ما يأتي:

حديث النهي عن بيع الملامسة والمنابذة: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة..”[5]

قال مالك: والملامسة أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه، على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا، فهذا الذي نهي عنه من الملامسة والمنابذة[6]. (وهذا مجمع على تحريمه، وسبب تحريمه الجهل بالصفة).

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في النهي عن المزابنة والمحاقلة: “أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة، والمزابنة: اشتراء الثمر بالتمر في رؤوس النخل، والمحاقلة: اشتراء الزرع بالحنطة، واستكراء الأرض بالحنطة”[7].

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة لما فيهما من الجهالة المفضية إلى الغرر.

حديث ابن عمر رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري”[8].

قال مالك: وبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها من بيع الغرر[9].

وقد استُدل على قصدية دفع الغرر بصيغة الاستفهام الإنكاري في قوله صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إذا منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟[10].

حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عي بيع الحصاة: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة”[11] لما فيها من الغرر والجهالة من جهة تعيين المبيع.

حديث ابن عمر رضي الله عنه في النهي عن بيع حبل الحبلة: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية: كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها”[12]. والقصد في ذلك رفع الغرر الموجود من جهة الأجل المؤدي إلى الغبن، فالبيع هنا إما بيع معدوم ومجهول، وإما بيع إلى أجل مجهول[13].

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في النهي عن المزابنة والمحاقلة: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن تشترى النخل حتى تُشقِهَ – والإشقاه أن يحمرّ أو يصفرّ أو يؤكل منه شيء- والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم، والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر، والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك”[14].

وتفسير المزابنة والمحاقلة أن كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده ابتيع بشيء مسمى من الكيل أو الوزن أو العدد، وفي كلا التعاملين بيع معلوم بمجهول، أو مجهول بمجهول، والجهالة علة مستفادة عن طريق الإيماء فنهى عنها سدّاً لباب الغرر[15].

النهي عن بيع المضامين والملاقيح: “عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان وإنما نُهي من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة، والمضامين: بيع ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح: بيع ما في ظهور الجمال”.

قال مالك: لا ينبغي أن يشتري أحد شيئا من الحيوان بعينه إذا كان غائبا عنه وإن كان قد رآه ورضيه على أن ينقد ثمنه لا قريبا ولا بعيدا. وقال: إنما كُره ذلك لأن البائع ينتفع بالثمن ولا يُدرى هل توجد تلك السلعة على ما رآها المبتاع أم لا؟ فلذلك كُره ذلك، ولا بأس به إذا كان مضمونا موصوفا[16].

وقال مالك أيضا: الأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب لأنه يُدرى أيخرج أم لا يخرج؟ فإن خرج لم يُدر أيكون حسنا أم قبيحا أم تاما أم ناقصا أم ذكرا أم أثنى؟ وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا فقيمته كذا، وإن كان على كذا فقيمته كذا[17].

قال النووي:” أما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ولهذا قدمه مسلم ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملك البائع عليه…”[18].

فهذه كتلة استدلالية استدل بها على مقصدية دفع الغرر.

إذن فدفع الغرر عن المكلفين مقصود للشارع الحكيم تحقيقا، والعقود التي يعتريها الغرر يؤثر فيها بالإبطال، إلا ما استثني منه، قال الدكتور الصديق الضرير: “الضابط الذي استطعت استخلاصه من النصوص الواردة في الغرر، ومن أقوال الفقهاء، ومن الفروع الفقهية الكثيرة المتعلقة بأحكام الغرر…أن الغرر المؤثر لابد أن تتوفر فيه الشروط الآتية:

  1.  أن يكون في عقود المعاوضات المالية.
  2. أن يكون كثيرًا، وهو ما غلب على العقد حتى صار يوصف به عند المالكية.
  3. أن يكون في المعقود عليه أصالة. فإنه “يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا”، “ويجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع”.
  4. ألا تدعو للعقد حاجة”[19].
  1. ينظر: معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (4/381). ولسان العرب؛ لابن منظور (5/13)
  2. المبسوط في الفقه الحنفي؛ للسرخسي، (12/164).
  3. القواعد النورانية؛ لابن تيمية، ص169.
  4. أثر المقامات الكاشفة عن المقاصد وتطبيقاتها؛ الأخضر الأخضري، ص464.
  5. البخاري: كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء، رقم 5819، (7/147).
  6. الموطأ: مالك بن أنس، تحقيق: هاني الحاج، ص380.
  7. المصدر نفسه، ص357.
  8. المصدر السابق، ص353.
  9. المصدر نفسه، ص354.
  10. المصدر نفسه، ص354.
  11. مسلم: كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم 1513، (5/3).
  12. البخاري: كتاب البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة، رقم 2143، (3/70).
  13. أثر المقامات الكاشفة عن المقاصد وتطبيقاتها؛ المرجع السابق، ص472.
  14. مسلم: كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة، والمزابنة، وعن المخابرة، رقم 1536، (5/17).
  15. أثر المقامات الكاشفة عن المقاصد وتطبيقاتها؛ المرجع السابق، ص473.
  16. الموطأ: المصدر السابق، ص373.
  17. المصدر السابق، ص379.
  18. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج؛ للنووي (10/156).
  19. الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي؛ للصديق الضرير، ص584.

اترك تعليقاً