|

مناقشة دعوى غلق باب الاجتهاد

مناقشة دعوى غلق باب الاجتهاد: أحمد الشافعي  (أحمد ناجي محمود ) باحث في الفقه وأصوله هل من الممكن…

مناقشة دعوى غلق باب الاجتهاد:

أحمد الشافعي  (أحمد ناجي محمود )

باحث في الفقه وأصوله

هل من الممكن أن يفقد المسلمون مفتاح الباب الذي يؤدي بهم إلى معرفة حكم الله تعالى في النوازل التي لا تنتهي؟ هل هذا من المعقول ابتداءً؟

إن من يزعم أن باب الاجتهاد أغلق فقد زعم أن العالم انتهى أو توقف وتجمد.. أو لعله يقول: إن العقل الإنساني فقد نفسه فلم يَعُد يُدرك أو يفكر!..

بل هو زعْمٌ بأن الشريعة نفسها تعطلت!؛ فإن الوقائع لا تنحصر، والنصوص منحصرة.

وهذه الدعوى تؤكد وترسخ سذاجة العلمانيين الذي يلقون بها صباح مساء في وجه كلّ من يناقشهم صارخين بأنها من ثوابت الفكر الإسلامي أو الفقه الإسلامي، ويدعون أنها قيلت على النحو الذي فهموه هم، فإن لهم فهمًا معوجًا ونظرًا فوضويًا، يدرك ذلك كلّ من سمعه مناقشاتهم، أو ابتلاه الله بها.

وصفات العلمانيين هذه، ومعهم المتخبطون والمتجرئون على الدِّين، هي التي دفعت نفرًا من المعاصرين أن يقولوا بمثل هذه العبارة لا قصدًا لها في ذاتها، وإيمانًا منهم بها، ولكن سدًا للباب على هؤلاء العابثين، فنزعوا إليها عن خوفٍ من تسورهم أسوار الشريعة ودخولهم إليها من غير بابها، باب العلم، فإن من نُسب إليه هذا المعنى إنَّما وجهه ضد من خاض في الحلال والحرام دون أن يمتلك أدوات العلم ومنهجه، وقد وجدنا في العقود القريبة من يدعي مثلاً إباحة بعض صور الحرام، كبعض صور الربا الواضحة، على غير أساس من العلم الصحيح المتجرد والمتنزه عن الهوى أو المحاباة.

والحق في ذلك أن يقر العالم بخطأ هؤلاء ويفتل حبلهم لا أن يدعي مثل هذه الدعوى الخطيرة، فواجب العلم هو المواجهة بالدليل والمنطق.

ثُمَّ إنَّ أحدًا من المسلمين ولو كان إمامهم الأكبر في الحُكم أو العِلم لا يملك أن يقرر هذا الأمر؛ فَإنَّه منافٍ للشريعة نفسها نقلاً وعقلاً.. ولا يملك أحدٌ زمام الأمة كلها بيده، فيغلق الباب أو يفتحه، وإنما القرآن والسنة هما من يقرران ذلك، لا غير، ولا شك.

وهنا أقرر بعض النقاط، فأقول:

  1. معرفة القدر لا غلق الفكر:

إن دعوى غلق باب الاجتهاد وقعت فعلا، وقيلت؛ لكن لا على النحو الذي يروج له البعض؛ بل هي مجرد دعوة عارضة في أمواج متلاطمة من التدافع الفكري مرت على المسلمين، فإنَّ غاية من زعمها: أن الاجتهاد المطلق لم يصل إليه أحد بعد القرون الأولى وموت الأئمة الكبار كالأوزاعي وسفيان الثوري أو الأئمة الأربعة، وأن أحدًا ممن جاء بعدهم لم يصل إلى ما وصلوا إليه، مع ضعف الملكة وشيوع التقليد.

  • دعوى لا حقيقة:

وهذه الدعوى جاءت من بعض المشتغلين بالعلم كدعوى لا كحقيقة مستقرة، فإن العلماء قديمًا وحديثًا يردونها ولا يعتقدونها، مثلها في ذلك مثل عشرات الدعاوى العلمية التي فنَّدها العلماء وأثبتوا خطأها، وفِعْلُ الأمة قديمًا وحديثًا وحركتها العلمية تدل دلالة قاطعة على ذبول هذه الدعوى، وانحسام أسبابها، وإنما جاء تشبث المتشككين والمرجفين بها لتأييد دعواهم بأن العقل المسلم جمد وتوقف!.

ولعلك تدرك ذلك إذا تأملت الحملة العلمية التي شنها عليهم ابن القيم (ت:751هـ)، والسيوطي (ت:911هـ)، والصنعاني (ت 1182هـ)، والشوكاني(ت: 1250هـ)، وغيرهم، ومن ذلك ما قاله الشوكاني عن زعمهم: «وهذه المقالة من هؤلاء الجهال؛ تتضمن نسخ الشريعة وذهاب رسمها وبقاء مجرد اسمها، وأنه لا كتاب ولا سنة؛ لأن العلماء العارفين بهما إذا لم يبق لهم سبيل على البيان الذي أمر الله سبحانه عباده به بقوله: )وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ( [البقرة:187].

وبقوله: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ( [البقرة:159]، فقد انقطعت أحكام الكتاب والسنة، وارتفعت من بين العباد، ولم يبق إلا مجرد تلاوة القرآن ودرس كتب السنة، ولا سبيل إلى التعبد بشيء مما فيهما.

ومن زعم عند هؤلاء الجهلة أنه يقضي أو يفتي بما فيهما أو يعمل لنفسه بشيء مما اشتملا عليه فدعواه باطلة وكلامه مردود.

فانظر إلى هذه الفاقرة العظمى، والداهية الدهياء، والجهالة الجهلاء، والبدعة العمياء الصماء».

  • إغلاق مذموم، وواجب محتوم:

الاجتهاد واجب على ذي الملكة، وغلق باب الاجتهاد يوقف العقل عن التفكير والتفكر، والعقل المسلم مأمور بالاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ استقلالاً، وإنما يكون التقليد لمن لم يمتلك الأدوات، فإن استخراج الحكم الشرعي ملكة تحتاج كفايات ومهارات ودربة، ولا يجوز التقليد إلا لمن فقدها.

  • قطع للمدد:

إن القول بغلق باب الاجتهاد كأنما يقطع فضل الله ومدده القادم من السماء عن أهل الأرض بعد القرون الأولى، وكأنه نضب، وهو لا يكون، لأن فضل الله باقٍ دائمٌ مستمرٌ لا ينقطع عن عباده، وليس حكرًا على أول الأمة، إذ إن الحوادث التي تعرض للمسلمين لا تتوقف، وإيجاد حكم لها ضروري لبقائها على الشَّرع وقيامها به، كما أنَّه ضروري لصدق الشَّرع الذي أخبرنا ببقائه وفاعليته وشموله للمكان والزمان والأشخاص.

  • الانشغال بالدنيا وطلب الرياسة:

ولا يمنعني هذا التأمل في البناء العلمي وتاريخ العلم الشرعي من التأكيد على أن الانشغال بالدنيا، والسعي إليها، وطلب المناصب، والارتقاء فيها، قد أدى ببعض المشتغلين بالعلم بلزوم المذاهب وحدها والعكوف على دراستها والتقدم فيها، ليجد كلٌّ لنفسه مسلكًا يسلكه في وظائف الدولة يؤمن فيها رزقه ومعيشة عياله، الأمر الذي انتهى بأن تصبح المذاهب «مادة استهلاكية»، ووسيلة للعمل والارتزاق، لا للعلم والارتقاء؛ فقل المجتهدون.

وينطبق هذا أيضًا على من تعصب لمذهبيته، فهو وضعيف الهمة سواء فيما آلا إليه.

قال الصنعاني: «تَقول تعذر الاجتهاد؟!.. ما هذا والله إلا كفران النعمة وجحودها، والإخلاد إِلى ضعف الهمة وركودها؛ إلا أَنه لا بُد َمع ذلك أولاً: من غسل فكرته عن أدران العصبية، وقطع مادة الوساوس المذهبية، وسؤال لِلَفْتح من الفتاح العلِيم، وتعرض لفضل الله».

  • الوصول إلى «قمة الامتلاء المعرفي»:

لاشك أن الأمة مرت بفترة بلغ فيها العلم مبلغًا عظيمًا، وصل به إلى قمة منحنى الحراك العلمي الشرعي، الأمر الذي يهيئ الطريق للانحدار واسعًا، كطبيعة من طبائع الأشياء التي تقتضي أنه ما بعد التمام إلا النقصان، وعند نقطة الامتلاء، أو القمة هذه، قد يظن البعض أنه لا جديد، لأننا لو تأملنا في طبيعة الحياة والأشياء في هذه القرون لظهر لنا جليًّا أن لها نمطًا متشابهًا من أولها إلى آخرها.. فهي عصور تعتمد على الطبيعة في الطب والدواء، وفي تقدير الأشياء والأوقات، وفي الحركة والانتقال، وعلى البساطة في العادات والملابس والمساكن، كلّ ذلك جعل البناء العلمي مناسبًا لهذه المرحلة من حياة الإنسان، فأخذ العلم دورته التصاعدية حتى عالج جل مشكلات المجتمع والإنسان والحياة كلها آنذاك، فلم يعد ثمة جديد ذو شأن لم يوقع عليه العلماء، فلم يكن بعد إلا الثبات والتوقف.

هذه مرحلة إنسانية تمثل حزمة من التفاعل الاجتماعي والنفسي والبيئي متناسقة متشابهة، فأحاطها غلاف علمي واحد، وكان كافيًا، ومناسبًا، زمانًا ومكانًا ومعرفة.

أما بعد بداية العصر الحديث؛ فإن طبيعة الحياة اختلفت جذريًا، في الطب والدواء، وفي تقدير الأشياء والأوقات، وفي الحركة والانتقال، وفي العادات والملابس والمساكن، كلّ ذلك نقل التفكير العلمي نقلة أخرى لا أقول تطورت لا بل قفزت قفزة نوعية، واتجهت في اتجاه مغاير، استدعى ذلك تنقيبًا وتفتيشًا في الأروقة العلمية السابقة، وخبايا زواياها، فوجدنا فيها معايير مفيدة، ومقاييس محكمة، يمكن الاستعانة بها على المستجدات، ثم إنها لم يتكن كافية؛ فانطلق العلماء ليبحثوا عن معايير جديدة ومقاييس مختلفة تناسب هذه النقلة النوعية في حياة الإنسان.

فإذا ما فهمنا هذا البعد الإنساني والمعرفي والاجتماعي، وأثره في الناحية العلمية، هان علينا ادّعاء من ادّعى غلق باب الاجتهاد، ووضعناه في مكانه الطبيعي من التطور المعرفي، وقدرنا حجمه في سياقه هذا..

وفي نهاية هذه الجولة نقول:

إن الحقيقة هي: وصول المنحنى العلمي إلى قمته في معالجة قضايا الأمة ومشكلات المجتمع، فاستشعر الناس الثبات والاستقرار. فهو امتلاء عند محور تطلب الحركة في اتجاه مختلف يلائم ما ستشرفه الأرض من أحداث وأوضاع علمية واجتماعية جديدة، لا يصلح معها المعالجة المعرفية السابقة، لأنها جاءت لتوافق زمانًا ومكانًا مختلفين، ونضج معرفي مختلف.. وهذا لا يعني الانبتات والانقطاع، بل التجديد المبني على الأصول والثوابت، والفهم الواعي لما هو ثابت وما هو متغير.. وإلا فإن هذه الأمة لن تصلح إلا بما صلح به أولها.

اترك تعليقاً