|

وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (3)

وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (3) د. فتحي لعطاوي جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية مدرب معتمد في…

وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (3)

وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (3)

د. فتحي لعطاوي

جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية

مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد:

فلايزال حديثنا متصلا بالهدايات والدلالات الفقهية والأصولية في آية الدين، وقد كان لنا مع صدر هذه الآية سابقا ثلاث وقفات في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين﴾.

فتكلمنا في الوقفة الأولى: عن حقيقة الدين.

وفي الثانية: عن المنظور إليه في المداينة الجارية على صيغة المفاعلة.

وفي الثالثة: عن دلالات زيادة قيد ﴿بدين﴾.

ونواصل الحديث في هذا المقال عن بقية الوقفات؛ فيقال -وبالله التوفيق-:

  • الوقفة الرابعة: في الفائدة من ذكر الأجل بعد ذكر المداينة في قوله تعالى: ﴿..إذا تداينتم بدين إلى أجل..﴾.

الأصل في المداينة أن تكون مؤجلّة، ومع هذا جاء في الآية ذكر الأجل بعد ذكر المداينة، ويمكن أن يستفاد من ذلك الاحتراز من السلم الحال[1]، لأنّ الآجل نقيض العاجل. ويؤكّده ما جاء في قول النبي ﷺ: ((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم))[2].

وقد ترجم الإمام البخاري-رحمه الله- في صحيحه لبعض طرق هذا الحديث بـ “باب السلم إلى أجل معلوم”[3]. يشير به – كما علّق عليه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- “إلى الردّ على من أجاز السلم الحال؛ وهو قول الشافعية”[4].

بينما ذهب أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم إلى اشتراط الأجل في السلم، ومنعوا السلم الحال[5]؛ وهو أولى الأقوال بالصواب-إن شاء الله-، على اعتبار أنّ السلم من المصالح الحاجية، ولهذا استثني من النهي النبوي عن بيع الإنسان ما ليس عنده. وقد سماه بعض الفقهاء: بيع المحاويج أو بيع المفاليس، لأنّ كل واحد من الطرفين محتاج لما بيد الآخر، فإن قيل بجواز السلم حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة[6].

وفي هذا الصدد يقول الإمام ابن العربي-رحمة الله عليه-: (.. والصحيح أنّه لا بد من الأجل فيه؛ لأنّ البيع على ضربين: معجل-وهو المعين-، ومؤجل.

فإن كان حالاً ولم يكن عند المسلم إليه فهو بيع ما ليس عندك، فلا بد من الأجل حتى يخلص كلّ عقد بصفته وعلى شروطه وتنزل الأحكام الشرعية منازلها..)[7].

  • الوقفة الخامسة: في الحد الأدنى لهذا الأجل الذي يجري الحديث عنه في بيع السلم.

جاء الأجل في الآية الكريمة مطلقا، ولم يحد فيه مدّة قريبة أو بعيدة. وقد تباينت آراء جمهور الفقهاء القائلين -باشتراط الأجل في السلم- بشأن المدّة الأقلّ التي يتحدّد بها هذا الأجل[8]. وتحريره -على الرأي المختار للمالكية والحنابلة- أنّه مدة تختلف الأسواق في مثلها وتتغير معها الأسعار، وإن اختلفوا بدورهم في مقدار هذه المدة من الأيام[9].

ولم يحد الإمام مالك-رحمه الله- في ذلك حدا، لأنّ اختلاف حال السلع وتغير الأسواق لا يختص بمدة، وإنما هو بحسب عرف البلاد؛ وهو عين الفقه-كما قاله الشيخ محمد المجلسي الشنقيطي في لوامع الدرر-[10].

ومن قدره من أصحابه بخمسة عشر يوماً أو أكثر أو أقل فلكونه مظنة اختلاف الأسعار غالبا في بلادهم ومقتضى ما عرفوه من أسواقها على ما قرره أهل التحقيق في المذهب. ولهذا جعل اختلاف البلدين بتباعد المسافة بينهما يومين أو ثلاثة كتباعد الأجل؛ لأنها مظنة حصول المقصد واختلاف الأسعار[11].

  • الوقفة السادسة: في وصف الأجل بـ ﴿مسمى﴾ في قوله: بدين إلى أجل مسمى.

وصف الأجل بـ“المسمى” تحرزا من الأجل المجهول؛ فلابد للأجل أن يكون معلوما، لئلا يقع الناس في الخصومات والمنازعات والمشاحنات.

وهذا يعمّ كلّ دين -على الصحيح من مذاهب أهل العلم[12]– لنص هذه الآية، علما أنّ لفظ “دين” نكرة في سياق الشرط، ومن المقرر في علم الأصول أنّها تفيد العموم. ولهذا جاء في المدونة: (قال مالك: وبلغني أن ابن عباس سئل عن السلف في الطعام فقال: لا بأس بذلك وتلا هذه الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾ [البقرة: 282] قال مالك: فهذا يجمع لك الدين كله )[13].

  • فيشمل على ذلك التأجيل في القروض، فيجوز اشتراط الأجل فيها-على ما قاله الإمام مالك-رحمه الله-[14]. وهو ما أخذت به هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في المعايير الشرعية[15].
  • ويشمل أثمان المبيعات إذا كانت مؤجّلة. ويدخل فيه دخولا أوليا المبيع في السَلم لكون الثمن معجلا والمبيع مؤجلا باعتباره سبب نزول الآية..

فكلّ هذه ديون مؤجلة إلى آجال مسماة[16].

ولا خلاف بين أهل العلم -في الجملة- في اشتراط معلومية الأجل في العقد على وجه يرفع الجهالة ويقطع المنازعة، كتحديده باليوم والشهر والسنة.

وإنما اختلفوا في بعض تفاصيل العلم به، فانفرد الإمام مالك-رحمه الله- دون سائر أئمة المذاهب بجواز التأجيل إلى المواسم المعروفة كالجذاذ والحصاد وقدوم الحاج وشبهه، لأنه رآه يختص بوقت وزمن معلوم في العادة، ولا يتفاوت اختلافه كثيرا، فيُغتفر[17]. وهذا أولى الأقوال بالصواب في المسألة. والعبرة في ذلك بالزمان أي: بحلول الموسم المعتاد، وليس بالفعل كحصول الحصاد فعلا؛ وهذا ما أخذت به-أيضا- هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في المعايير الشرعية[18].

وللحديث بقية في المقال القادم إن شاء الله..

والله تعالى أعلى وأعلم؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين.

✍ د. فتحي لعطاوي

  1. تفسير القرطبي (3/ 379).
  2. أخرجه البخاري -واللفظ له-(3/ 85) كتاب السلم- باب السلم في وزن معلوم؛ صحيح مسلم (3/ 1226) كتاب المساقاة-باب السلم.
  3. صحيح البخاري (3/ 86).
  4. فتح الباري (4/ 434).
  5. ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 567)؛ المحلى لابن حزم (8/ 39)؛ المبسوط للسرخسي (12/ 125)؛ بدائع الصنائع للكاساني (5/212)؛ بداية المجتهد لابن رشد (3/ 219)؛ المغني لابن قدامة (4/218)؛ الذخيرة للقرافي (5/ 251)؛ الإنصاف للمرادوي (5/98).
  6. ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 567)؛ المبسوط للسرخسي (12/ 126)؛ بدائع الصنائع للكاساني (5/ 201)؛ المغني لابن قدامة (4/ 220)؛ تفسير القرطبي (3/ 379).
  7. ينظر: القبس (ص: 834).
  8. ينظر: المعونة للقاضي عبد الوهاب (ص: 983)؛ المحلى لابن حزم (8/ 45)؛ المبسوط للسرخسي (12/ 127)؛ الذخيرة للقرافي (5/ 253)؛ الإنصاف للمرادوي (5/98).
  9. ينظر: المعونة للقاضي عبد الوهاب (ص: 983)؛ القبس لابن العربي (ص: 834)؛ بداية المجتهد لابن رشد (3/ 219-220)؛ المغني لابن قدامة (4/220)؛ الإنصاف للمرادوي (5/97).
  10. لوامع الدرر في هتك استار المختصر (9/ 119).
  11. ينظر لمزيد من التفصيل: المنتقى للباجي (4/ 298)؛ جامع الأمهات لابن الحاجب (ص: 372)؛ المختصر الفقهي لابن عرفة (6/ 276)؛ شرح زروق على متن الرسالة (2/ 760)؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 206)؛ لوامع الدرر للمجلسي (9/ 119).
  12. ينظر: شرح التلقين للمازري (3/ 1/ 377)؛ تفسير القرطبي (3/ 377)؛ شرح الرسالة للتنوخي (2/ 159)؛ التحرير والتنوير لابن عاشور (3/ 99)؛ زهرة التفاسير لأبي زهرة (2/ 1065).
  13. (3/ 60).
  14. ينظر: التبصرة للخمي (6/ 2877)؛ شرح التلقين للمازري (3/ 1/ 377)؛ شرح الرسالة للتنوخي (2/ 159).
  15. كما في المعيار الشرعي رقم (19) الخاص بالقرض(ص522).
  16. ينظر: التبصرة للخمي (6/ 2877-2878)؛ زهرة التفاسير لأبي زهرة (2/ 1065).
  17. في حين رآه غيره من الفقهاء مجهولًا، لاختلاف طرقه وطول مداه. ينظر: ينظر: المعونة للقاضي عبد الوهاب (ص: 989) والإشراف له (2/ 568)؛ بدائع الصنائع للكاساني (5/ 178)؛ القبس لابن العربي (ص: 834)؛ المغني لابن قدامة (4/ 219)؛ بداية المجتهد لابن رشد (3/ 220).
  18. كما في المعيار الشرعي رقم (31) المتعلق بضابط الغرر المفسد للمعاملات المالية (ص786).

اترك تعليقاً