وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (4)
وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (4) د. فتحي لعطاوي جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية مدرب معتمد في…
وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (4)
د. فتحي لعطاوي
جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية
مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله؛ وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واتّبع هداه؛ وبعد:
فلا زلنا نرفل في ظلال آية الدين، ونستقي من معينها، ونلتمس هداياتها، ونتشوف لدلالاتها.. وقد بلغ بنا الحديث في المقال السابق إلى الوقفة السادسة، عند وصف الأجل بـ“المسمى” في قول الله جل وعلا: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى..﴾.
ونواصل الكلام في هذا المقال عن بقية الدلالات الفقهية والأصولية التي نراها منبثة في جنبات الآية الكريمة؛ فيقال وبالله تعالى التوفيق:
الوقفة السابعة: عند كتابة الدين ودلالة الأمر بها في قوله تعالى: ﴿إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾.
يقول الإمام الطبري-رحمه الله-: (يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿فاكتبوه﴾؛ فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض..)[1].
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي-رحمه الله-: (قوله تعالى: ﴿فاكتبوه﴾؛ يريد يكون صكا ليستذكر به عند أجله؛ لما يُتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل ..)[2].
والمقصود أنّ هذا النص السامي قد اشتمل على الأمر بالكتابة والرسم الحرفي أو الإثبات الخطّي لجميع عقود المداينات والمعاملات المؤجّلة، بغرض ضبطها وحفظها والتمكن من الرجوع إلى المكتوب عند الحاجة، فإنّ “الكتاب خليفة اللسان”[3]-كما يقال-.
وما أحسن قول الشاعر[4]:
أنِلني بالذي استقرضت خطًا | وأشهِد معشرًا قد شاهدوه |
فـإنّ الله خـــــــــــلّاق البــــــــــــرايا | عَنَت لجَلال هيبته الوُجوه |
يقــــــــــول: إذا تداينتـــم بدينٍ | إلى أجــلٍ مسمىً فاكتبـــوه |
وهذا مع الإلماع إلى أنّ “الفاء” في قوله سبحانه: ﴿فاكتبوه﴾ رابطة لجواب الشرط في ﴿إذا﴾، وكلّ من الفعل: “تداينتم” ومتعلّقه: “بدين”؛ واقعان في سياق الشرط، وذلك من صيغ العموم عند الأصوليين[5].
فتعمّ الآية حينئذ كلّ مدين كائنا من كان: قريبا أم بعيدا، مؤمنا أم كافرا، برا أم فاجرا. وكلّ دين -مهما كان مبلغه-: قليلا أو كثيرا، باهظا أو حقيرا. وإلى أيّ أجل مضروب للسداد -مهما كان-: بعد أيام أو أشهر أو سنوات، وعلى أي وجه كان: من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل، ويدلّ لهذا قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله﴾[6].
وقد اختلف السادة العلماء في حكم توثيق الدين بالكتابة على أقوال، يمكن إجمالها في اتجاهين رئيسين[7]:
الاتجاه الأول: أنّ توثيق الدين بالكتابة ليس واجبا؛ وهو مذهب جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم-رحمة الله عليهم-. على خلاف بينهم بعد ذلك في حكم الكتابة؛ وهل هي: للندب أو للإرشاد[8] أو أنها كانت عزيمة ثمّ نسخت. وهذا على اعتبار أن الأمر جاء مقرونا بقوله تعالى في الآية الموالية: ﴿فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته﴾، لأنّها تشير إلى أنّ الدائن له أن يثق بمدينه ويأتمنه من غير كتابة الدين عليه. فمن وجد استغناءً عن الكتابة بالثِّقةِ والتَّراضِي فهو في حلّ وسعة من التصرّف في ملكه، وما قد يقعُ من الضرر فهو الذي يحتمّله.
وقد ثبت في السنة أنّ النبي ﷺ بايع أعرابيا في فرس فجحد الأعرابي ولم يكن بينهما بيّنة من كتاب أو إشهاد[9]؛ “فلو كان حتما لم يبايع رسول الله ﷺ بلا بينة”-كما قاله الإمام الشافعي[10]-رحمه الله-.
ولم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم من عموم المسلمين في مختلف ديار الإسلام يتداينون ويتبايعون بالأثمان المؤجلة من غير أن ينقل عنهم كتابة ولا إشهاد، ولو كانوا يفعلون ذلك في كلّ مدايناتهم وتعاملاتهم المؤجلّة لنُقِل عنهم؛ وهو ما يمثل اتفاقا عمليا ضمنيا على عدم الوجوب.
يقول الإمام الشافعي-رحمه الله-: (.. دلّ كتاب الله عز وجل على أنّ أمره بالكتاب ثمّ الشهود ثمّ الرهن؛ إرشادٌ لا فرض عليهم، لأنّ قوله: ﴿فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته﴾ [البقرة: 283] إباحة لأن يأمن بعضهم بعضا، فيدع الكتاب والشهود والرهن..)[11].
وقال الإمام الجصاص-رحمه الله-: (.. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار[12] أنّ الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلفا عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به، وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا. وذلك منقول من عصر النبي ﷺ إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا، و لأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلمّا لم يُنقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة، ثبت بذلك أنّ الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين..)[13].
الاتجاه الثاني: أنّ توثيق الدين بالكتابة واجب على أصل دلالة الأمر، وتاركه-مع القدرة-عاصٍ. وحملوا قوله تعالى: ﴿فإن أمن بعضكم بعضا.. (الآية)﴾ على حال الضرورة، كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهود. فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من شخص في مثل هذه الحال فلا يحرم عليه ائتمانه لقضاء حاجته وسدّ خلته.
وهذا رأي طائفة من السلف، واختيار الإمام ابن جرير الطبري، وقول الظاهرية، ورجّحه بعض المتأخرين-رحمة الله عليهم أجمعين-.
يقول الإمام الطبري-رحمه الله-: (والصواب من القول في ذلك عندنا: أنّ الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيّعه منهم كان حرجا بتضييعه..)[14].
ويقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور-رحمه الله-: (.. والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنه الأصل في الأمر، وقد تأكد بهذه المؤكدات، وأن قوله: ﴿فإن أمن بعضكم بعضا.. (الآية)﴾ رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين -كما سيأتي-، فإنّ حالة الائتمان حالةٌ سالمة من تطرق التناكر والخصام، لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى، فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة، لئلا يتساهلوا ابتداء ثم يُفضوا إلى المنازعة في العاقبة. ويظهر لي أنّ في الوجوب نفيا للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعدّ المدين ذلك من سوء الظن به، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين..)[15].
وجملة القول؛ أنّ توثيق الدين بالكتابة دائرٌ بين الوجوب والاستحباب أو الإرشاد، وهو أقلّ أحواله. وقد يقوى الوجوب، وقد يقوى الاستحباب ويتوطّد الإرشاد، بحسب الأحوال المقتضية لذلك-كما قرره بعض أهل العلم-[16].
– فمَن وثّق الدين بالكتابة، فقد أخذ بالحزم وعمل بهداية دِينه بصرف النظر عن ثقته بمدينه. وهذا التوثيق أحفظ للمقدار والميقات، وأبعد من الجحد والنسيان، وما قد يعرض من العوارض كالموت وغيره. وأمّا الاعتماد على عامل الثقة والائتمان لوحده فليس مضمونا، وقد نبّه الله جل وعلا على ذلك في آخر الآية حيث قال: ﴿ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا﴾[17].
وفي هذا الصدد يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: (..وأحبّ الكتاب والشهود، لأنه إرشاد من الله ونظر للبائع والمشتري. وذلك أنهما إن كانا أمينين؛ فقد يموتان أو أحدهما فلا يعرف حق البائع على المشتري فيتلف على البائع أو ورثته حقه، وتكون التباعة على المشتري في أمر لم يرده. وقد يتغيّر عقل المشتري فيكون هذا على البائع، وقد يغلط المشتري فلا يقر فيدخل في الظلم من حيث لا يعلم. ويصيب ذلك البائع فيدعي ما ليس له.
فيكون الكتاب والشهادة قاطعا هذا عنهما وعن ورثتهما ولم يكن يدخله ما وصفت انبغى لأهل دين الله اختيار ما ندبهم الله إليه إرشادا، ومن تركه فقد ترك حزما وأمرا لم أحب تركه من غير أن أزعم أنه محرم عليه بما وصفت من الآية بعده..)[18].
– ويتأكّد ذلك وقد يقارب الوجوب فيما له خطر وقيمة، ويستأهل أن يترافع الناس إلى القضاة من أجله، فتشتدّ الحاجة إلى كتابته وتوثيقه، سواء كان بين الأفراد أو الجماعات أو الهيئات أو الشركات، لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، وما يترتّب على تركه -في المقابل- من المفاسد والمشاكل المتكرّرة، لا سيما في هذا الزمان لاعتبارات كثيرة[19].
– وقد يجب ذلك، إذا وجب حفظ الحقّ، فيما إذا كان الإنسان يتصرّف لغيره كولي اليتيم والوكيل وناظر الوقف وغيرهم، وكان ذلك على دين مؤجل أو غير مقبوض. فإنّ المتصرّف لغيره يتعيّن عليه الاجتهاد في الأصلح، ويلزمه التحوّط من المخاطر، ودفع المفاسد الواقعة أو المتوقعة-كما مقرر في كتب القواعد وفروع المذاهب الفقهية[20]-؛ ولا يتمّ ذلك ههنا إلا بالكتابة أو ما يقوم مقامها من وسائل التوثيق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[21].
وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين-رحمة الله عليه-: (.. وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة – أعني كتابة الدين المؤجل-؛ لقوله تعالى في الآية التي تليها: ﴿فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته﴾ [البقرة: 283]؛ وينبغي على هذا القول أن يُستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره، كوليّ اليتيم فإنّه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه)[22].
ولا يزال للكلام صلة وللحديث بقية في المقال القادم بإذن الله جلّ وعلا.
والله أعلم؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله أولا وآخرا.
✍ د. فتحي لعطاوي
- جامع البيان (6/ 47). ↑
- أحكام القرآن (1/ 328). ↑
- تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 589). ↑
- هذه الأبيات لأبي القاسم الحسين بن الحسن الواساني الدمشقي (ت394هـ) -رحمه الله-. وهناك من نسبها للإمام الشافعي-رحمه الله-. ينظر: معجم الأدباء للحموي (3/ 1057)؛ البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/482-483). ↑
- ينظر: البرهان في أصول الفقه للجويني (1/ 119)؛ مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (ص: 247). ↑
- ينظر لمزيد من التفصيل: مفاتيح الغيب للرازي (7/ 91)؛ تفسير ابن عرفة (1/ 329)؛ التحرير والتنوير لابن عاشور (3/ 98-99). ↑
- ينظر لمزيد من التوسع: الأم للشافعي (3/88-89)؛ جامع البيان للطبري (6/47-50 و 53-55)؛ المحلى لابن حزم (6/351-352) و(7/224-232)؛ المقدمات الممهدات لابن رشد الجد (2/ 278)؛ المغني لابن قدامة (4/ 205-206)؛ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (3/111-113)؛ التحرير والتنوير لابن عاشور (3/ 100)؛ الموسوعة الفقهية الكويتية (14/ 136-137). ↑
- يفرق الأصوليون بين الندب والإرشاد؛ من جهة الندب لثواب الآخرة، وعلى هذا فيثاب المرء على الكتابة لمجرد الامتثال. وأمّا الإرشاد فللتنبيه على المصالح والمنافع الدنيوية، ولا يتعلق به ثواب ألبتة؛ لأنه فعل متعلّق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه، فلا ينقص ثواب بترك الكتابة والإشهاد في المداينات، ولا يزيد بسبب فعله. ينظر: المستصفى للغزالي (ص: 205)؛ المحصول للرازي (2/ 39)؛ نفائس الأصول للقرافي (3/ 1176)؛ البحر المحيط للزركشي (3/ 276). ↑
- ينظر: سنن أبي داود (3/ 308) كتاب الأقضية- باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به؛ سنن النسائي (7/ 301) كتاب البيوع- التسهيل في ترك الإشهاد على البيع. وصححه الشيخ الألباني-رحمه الله- في إرواء الغليل (5/ 127). ↑
- الأم (3/89). ↑
- الأم (3/ 90). ↑
- مع التحفّظ على نفي الخلاف في المسألة، لأنها خلافية كما هو معلوم؛ فإما أن يكون الرأي المخالف لم يبلغ الإمام الجصاص -رحمه الله-، أو أنه خلاف يراه خلافا غير معتبر وليس له حظ من النظر. ↑
- أحكام القرآن (2/ 206). ↑
- جامع البيان (6/ 53). ↑
- التحرير والتنوير (3/ 100). ↑
- ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص: 959). ↑
- ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 722). ومن العبارات التي يتناقلها عموم الناس عندنا، وتجري مجرى الأمثال الشعبية؛ قولهم: “الثقة في الوثيقة”. ↑
- الأم للشافعي (3/ 90-91). ↑
- ينظر: المغني لابن قدامة (4/ 205). ↑
- ينظر لمزيد من التوسع: الأشباه والنظائر لابن السبكي(1/310)؛ الأشباه والنظائر لابن الملقن(2/216)؛ موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (8/ 592)؛ معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية (18/117 وما بعدها). ↑
- ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص: 959) وتيسير اللطيف المنان له (ص: 120). ↑
- تفسير الفاتحة والبقرة (3/412-413). ↑