وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (5)
وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (5) د. فتحي لعطاوي جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية مدرب معتمد في…
وقفات أصولية وفقهية مع آية الدين (5)
د. فتحي لعطاوي
جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية
مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وأجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فلا يزال الحديث موصولا عن الدلالات الفقهية والإشارات الأصولية التي تنطوي عليها آية المداينة. وقد كانت لنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة عدة وقفات عند جملة منها، وبلغ بنا الكلام في هذا المقال إلى الوقفة الثامنة، فيقال -وبالله التوفيق-:
الوقفة الثامنة: في شروط من يتولى الكتابة في قول الله تعالى: ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾.
سباق هذا النص السامي قوله سبحانه: ﴿يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾؛ وهو يشمل حالتين[1]:
الأولى: حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما إذا كانا يحسنان الكتابة معا؛ وهذا يؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه.
والثانية: حالة كتابة طرف ثالث يتوسّط بينهما. فيكتب ما تعاقد عليه المتداينان، ويشهد عليه شاهدان، إذا كان لا يحسن أحدهما أو كلاهما الكتابة.
ومما هو معلوم أنّ هذه الحالة الثانية كانت هي الغالبة لدى العرب عند نزول الآية الكريمة، نظرا لفشو الأمّية بينهم.
ومن هنا جاء التعقيب بقوله جلّ وعلا: ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾ وهو-عند التحقيق- أمر للمتداينين بأن يوسطوا كاتبا يكتب بينهم، على اعتبار أنّ غالب حالهم جهل الكتابة-كما قلنا-.
فمتعلّق فعل الطلب (وليكتب) هو ظرف (بينكم). وليس هذا أمرا للكاتب، وإنما هو أمر للمتعاقدين بالاستكتاب[2]. وأمّا أمر الكاتب بالكتابة فهو قوله تعالى: ﴿ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب﴾؛ كما سنتعرض له في المقال القادم بإذن الله.
وبقي أن نتفهّم -ههنا- متعلّق الجار والمجرور (بالعدل) في قوله سبحانه ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾.
– فقيل: هو متعلّق بقوله: (وليكتب)؛ أي: ليكتب بالحق والقسط، فيكون بهذا وصفا للكتابة. ومعنى هذا أنّ الكاتب مطالب بالتزام الحقّ والإنصاف في كتابة الوثيقة، ولا يكون في قلمه هوادة لأحدهما على الآخر.
– وقيل: إنّ قوله (بالعدل) متعلق بـ (كاتب)؛ أي: كاتب موصوف بالعدل. ومعنى هذا أنّه يلزم أن يكون الكاتب عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته.
والقاعدة المقررة عند المفسّرين “أنّ المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها”[3]، ونظيره ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا. فالآية القرآنية إذا كانت تحتمل معاني كلّها صحيحة تعيَّن حملها على الجميع[4]. وهذا من باب التوسّع الدلالي وتكثير المعاني مع إيجاز اللفظ، بحسب ما تسمح به اللغة العربية، وهو من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم[5].
وبناء على هذا يمكن أن يقال إنّ الكاتب يشترط أن يكون في نفسه من العدول المرضيين -في المقام الأول-، لأنّه مؤتمن على ما يكتب. لا سيما إذا كان منتصبا لهذا العمل.
ثمّ إنّ من لوازم عدالة الكاتب أن يلتزم بالحياد والعدل بين الطرفين، فلا يحابي أحدهما على حساب الآخر، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان[6].
وممّا ينسب إلى الإمام ابن أبي زمنين -رحمه الله تعالى- في هذا الصدد أنّه أنشد[7]:
أيا ذا الوثائق لا تغرر | بما في يديك من المرتقب |
فإنك مهما تكن عاقدًا | لزور تزخرفه أو كذب |
فإن العظيم محيط به | ويعلم من وراء الحجب |
فكن حذرًا من عقوبته | ومن هول نار ترى تلتهب |
ولا تنس أهوال يوم اللقا | فكم فيه من روعة ترتقب |
وهناك معنى آخر مدمج في الكلام فوق هذا -أيضا- وهو معنى العلم؛ أي: أن يكون الكاتب عالماً بالشروط، حتى يجيء مكتوبه ضمن نطاق العدل. وذلك أنّ مراعاة العدل والنظرة السوية لا يتمكن منها إلا العارف بكتابة الوثائق وما يختص بالشروط وما يلزم فيها؛ فلا سبيل إلى العدل إلا بذلك[8].
وقد نقل الإمام الونشريسي -رحمه الله- عن الإمام مالك -رحمه الله- أنّه قال: (لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون؛ لقول الله تعالى: ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾)[9].
وعلى العموم فإنّ كتابة الوثائق أضحت -مع مرور الزمن- مهنة مقصورة على أشخاص معيّنين، تخضع لشروط ومقاييس خاصة، ويشترط للالتحاق بها في هذا العصر، متابعة تكوين متخصص، والحصول على شهادة الكفاءة لممارسة المهنة.
كما أنّ الأمر لم يعد مقتصرا على المستندات والمحررات المعروفة سابقا، حينما كان المتداينان يلجآن إلى تحرير وثيقة بينهما أو يكتبها شخص ثالث غيرهما وفق أوضاع معتادة، ثمّ يوقعان أو يختمان أو يبصمان عليها.
بل قد استحدثت العديد من صور المستندات الخطية لتوثيق الدين، والتي تختلف من حيث مدى قوّتها وشروط الاحتجاج بها، فبعضها من شأنه إثبات الدين بشكل صريح ولا يقبل الإنكار، وبعضها دون ذلك.
ومن أمثلة هذه المستندات دفاتر التجار والصكوك والفواتير التي تبين ما عليهم من ديون، وما يسمى في هذا العصر بالأوراق التجارية[10] التي تشمل الكمبيالات، والسندات لأمر، والشيكات؛ فإنها تعتبر وثائق بدين، وتعدّ بمثابة الالتزام أو الإقرار الكتابي بمقداره وتاريخ استحقاقه.. وما إلى ذلك.
وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 64 (7/2) على أنّ: ” الأوراق التجارية (الشيكات – السندات لأمر – سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة”[11].
وبالإضافة إلى ذلك ظهرت إلى الواجهة -مع تطور تكنولوجيا المعلومات وشيوع استخدام الحاسب الآلي وشبكة الأنترنت-، ما يسمى بطرق الإثبات الالكترونية من خلال المحررات الالكترونية والتوقيع الالكتروني الذي يأخذ عدّة صور.
وقد أقرت الكثير من القوانين الوضعية بمبدأ التكافؤ في الإثبات بين نوعي الكتابة التقليدية والإلكترونية، وهو الذي تقتضيه القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة الإسلامية التي لا تشترط دعامة حصرية للكتابة دون غيرها، بل تسمح باللجوء لأي وسيلة عصرية تعارف الناس عليها، ورضي المتداينان بها، وكانت محققة للمقصود[12]؛ والله أعلم.
وهذا منتهى الكلام في هذا المقال، وللحديث بقية في المقال القادم بإذن الواحد الديان
وصل اللهم وسلّم أتمّ صلاة وسلام على سيد ولد عدنان
والحمد لله أولا وآخر
✍ د. فتحي لعطاوي
- ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 328-329)؛ التحرير والتنوير لا عاشور (3/ 100-101). ↑
- ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (3/101). ↑
- التحرير والتنوير لابن عاشور(1/ 93). ↑
- ينظر: فصول في أصول التفسير لمساعد الطيار (ص: 119). ↑
- ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور(1/ 93 وما بعدها). ↑
- ينظر: حاشية الطيبي على الكشاف (3/ 554)؛ تفسير ابن كثير (1/ 724)؛ تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص: 118). ↑
- توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام للتوزري (1/ 70). ↑
- ينظر: حاشية الطيبي على الكشاف (3/ 554-555)؛ تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص: 118). ↑
- المنهج الفائق (ص: 62). وينظر: تبصرة الحكام لابن فرحون(1/ 282). ↑
- ينظر: المعاملات المالية أصالة ومعاصرة للذبيان (13/ 563). ↑
- يراجع موقع مجمع الفقه الإسلامي الدولي على الرابط التالي: https://iifa-aifi.org/ar/1849.html. ↑
- ينظر في هذا الصدد مقال: “موقف الشريعة الإسلامية من الإثبات بالكتابة الالكترونية” للباحث سعدي الربيع، دراسات وأبحاث: المجلة العربية للأبحاث في العلوم الإنسانية و الاجتماعية، جامعة زيان عاشور الجلفة، ع25، ديسمبر2016. ↑