|

وقفات فقهية وأصولية مع آية الدين (2)

وقفات فقهية وأصولية مع آية الدين (2) د. فتحي لعطاوي جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية مدرب معتمد في…

وقفات فقهية وأصولية مع آية الدين (2)

د. فتحي لعطاوي

جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية

مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية-نادي الاقتصاد الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد:

كان المقال الأول في هذه السلسلة مدخلا للحديث عن آية الدين على سبيل الإجمال، وإلماعا لما تضمّنته من المسائل والأحكام، وإشارة ما اشتملت عليه من الفوائد والمقاصد.

وستكون لنا في هذا المقالة-بعون الله تعالى-، بعض الوقفات عند بصيص من الإشراقات والدلالات الفقهية والأصولية التي تنطوي عليها هذه الآية العظيمة؛ وهي قليل من كثير، وصبابة من غدير.

  • الوقفة الأولى: حقيقة الدين في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين﴾.

فالدين “عبارة عن كلّ معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة”-كما قاله الإمام ابن العربي المالكي-رحمه الله-[1]. وهذا قول أكثر العلماء.

فيدخل في ذلك بيع السلعة المعينة بثمن إلى أجل، وبيع السلعة في الذمة إلى أجل، وهو المسمى بالسلم والسلف[2].

وقد ورد عن ابن عباس-رضي الله عنهما- ما يفيد أنّ الآية نزلت في السلم، فكان يقول: (أشهد أنّ السلف المضمون إلى أجل مسمّى، أنّ الله عز وجل قد أحلّه وأذن فيه. ويتلو هذه الآية: ﴿إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى..﴾)[3].

ولا شك أنّ الآية دليل على جواز السلم في كلّ ما يضبط بالصفة، وهو ما اتّفق عليه أهل العلم -في الجملة- على الشروط المعروفة عندهم[4]. وثبت في السنة المطهّرة أنّ النبي ﷺ قدم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: ((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم))[5].

ولكن هذا لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها، لأنّ القاعدة المقررة أصوليا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخذ جماهير العلماء والمفسرين-هنا- بعموم اللفظ وعملوا بمضمّنه -كما ذكرنا آنفا-.

وفي هذا الصدد يقول الفخر الرازي-رحمة الله عليه-: (المفسرين قول أكثر المفسرين: أن البياعات على أربعة أوجه:

أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة ألبتة.

والثاني: بيع الدين بالدين وهو باطل، فلا يكون داخلا تحت هذه الآية.

بقي هنا قسمان: العين بالدين؛ وهو ما إذا باع شيئا بثمن مؤجل. وبيع الدين بالعين؛ وهو المسمى بالسلم. وكلاهما داخلان تحت هذه الآية)[6].

  • الوقفة الثانية: المنظور إليه في المداينة في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم﴾.

أورد بعض المفسرين -هنا- تساؤلا بشأن المنظور إليه في التداين؛ لأنّ “المداينة” جارية على صيغة “المفاعلة” وهي صيغة تقتضي غالبا المشاركة من جانبين-كما هو معلوم[7]-.

وعلى هذا فقد يقال: إنّ التداين لا يتحقّق معناه إلا بوقوعه من اثنين، أي: أن يحصل من كلّ واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين، وقد أسلفنا أنّه ليس داخلا في معنى الآية؛ فهو باطل بالاتفاق[8].

والجواب؛ أنّ المفاعلة -هنا- على غير بابها، لأنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المسلف. فعلى هذا تكون “المداينة” من المفاعلة التي تكون من واحد، كالمضاربة لأنّ العامل يختص بالضرب في الأرض. ويترجح هذا المعنى بالنظر لزيادة قيد “بدين” كما سيأتي توضيحه في الوقفة الموالية.

وقيل: إنّ المراد من تداينتم تعاملتم، والتقدير: إذا تعاملتم بما فيه دين.

ولك أنّ تجعل المفاعلة منظورا فيها المخاطبين -وهم مجموع الأمة-، لأنّ في المجموع دائنا ومدينا، فصار المجموع مشتملا على جانبين[9].

  • الوقفة الثالثة: عند تأكيد الدين في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين﴾.

من الجلي أنّ قوله سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم﴾ يدلّ على الدين؛ فما هي دلالات زيادة قيد ﴿بدين﴾ ؟.

وقد أجيب عن هذا من وجوه؛ أهمها ما يأتي[10]:

الأول: أننا ذكرنا-قبل قليل- أنّ المداينة مفاعلة، وقد يتوهم أنّها إنما تتناول بيع الدين بالدين. فلمّا قال سبحانه: ﴿إذا تداينتم بدين﴾ كان المعنى: إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد. وحينئذ ينصرف عن الآية إيراد بيع الدين بالدين. ويبقى: بيع العين بالدين، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير. وهذا أقوى الأوجه وأجود الدلالات في تقديري-والله أعلم-.

الوجه الثاني: أنّه أتي به ليفيد التعميم وتنويع الدين، وأنّ التوثيق مطلوب لأي دين كان سواء كان الدين صغيرا أو كبيرا، وعلى أي وجه كان، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل.

وهذا -أيضا- توجيه سديد، ويدل على هذا قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله﴾.

الوجه الثالث: أنّ التداين يأتي لمعنيين: أحدهما: التداين بالمال، والآخر التداين بمعنى المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدين الجزاء؛ فذكر الله تعالى قيد “بدين” لتخصيص أحد المعنيين.

وفيه نظر لأنّ السباق واللحاق يُرشد إلى إرادة التداين بالمال.

الوجه الرابع: إنّما ذكر “الدين” ليرجع إليه الضمير في قوله جل وعلا بعدها: ﴿فاكتبوه﴾؛ إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يرتق النظم لذلك الحسن.

“وهو ممنوع؛ لأنّه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من ﴿تداينتم﴾، لأنه يدل على الدين”-كما قاله الإمام الزركشي-رحمه الله-.

ولايزال للكلام في هدايات الآية صلة، وللحديث عن دلالاتها بقية بإذن الله تعالى.

والله تعالى أعلى وأعلم؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين.

✍ د. فتحي لعطاوي

  1. أحكام القرآن (1/ 327). وينظر: تفسير القرطبي (3/ 377).
  2. ينظر: مفاتيح الغيب للرازي (7/ 91)؛ تيسير البيان لأحكام القرآن لابن نور الدين (2/ 161).
  3. أسنده جمع من الأئمة من عدة طرق عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-. ينظر: الأم للشافعي (3/93-94) باب السلف؛ مصنف عبد الرزاق الصنعاني (8/ 5) كتاب البيوع- باب لا سلف إلا إلى أجل معلوم؛ مصنف ابن أبي شيبة (4/ 481) كتاب البيوع والأقضية- السلف في الطعام والتمر؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 314) كتاب التفسير- من سورة البقرة؛ السنن الكبرى للبيهقي (6/30) جماع أبواب السلم-باب جواز السلف المضمون بالصفة. وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري (6/ 45)؛ والشيخ الألباني في إرواء الغليل (5/213) -رحمة الله عليهم أجمعين-.
  4. ينظر: الإجماع (ص: 107) والإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (6/ 101)؛ المغني لابن قدامة (4/ 207)؛ الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (2/ 237).
  5. أخرجه البخاري -واللفظ له-(3/ 85) كتاب السلم- باب السلم في وزن معلوم؛ صحيح مسلم (3/ 1226) كتاب المساقاة-باب السلم.
  6. مفاتيح الغيب (7/ 90-91).
  7. ينظر: النحو الوافي لعباس حسن (2/ 369).
  8. ينظر: مفاتيح الغيب للرازي (7/ 91).
  9. ينظر: مفاتيح الغيب للرازي (7/ 91)؛ التحرير والتنوير لابن عاشور (3/ 98).
  10. ينظر لمزيد من التفضيل: مفاتيح الغيب للرازي (7/ 91)؛ البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 398-399)؛ التحرير والتنوير لابن عاشور(3/ 98-99).

اترك تعليقاً