|

قاعدة اعتبار الرضا في المعاملات المالية

أد. نور الدين بوحمزة أستاذ بكلية العلوم الإسلامية جامعة الجزائر (1) الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على…

أد. نور الدين بوحمزة

أستاذ بكلية العلوم الإسلامية

جامعة الجزائر (1)

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أمَّا بعد؛

فإنَّ النَّاظر في الأسس العامَّة والمبادئ الكلِّية التي قامت عليها المعاملات والعقود المالية يجد قاعدةَ اعتبارِ الرّضا من أعظم المبادئ وأجلِّ الأسس التي بنى عليها الشرَّعُ الحكيم حلِّيَّة تبادل الأموال والحقوق، وسوَّغ بسببها انتقال المنافع والأعيان بين المتعاقدين على وجه المعاوضة أو التَّبرع([1])، يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ([2]) ، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً([3])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّما البيعُ عن تراضٍ»([4]). وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ»([5])، ففي هذه النَّصوص دلالةٌ صريحةٌ على أنَّ أساس انتقال الأموال والحقوق المشروعة صدورُها عن رضا المتعاقدين وحصولها عن طيبِ نفسٍ منهما؛ فلا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلا برضاه واختياره.

والحكمة من اشتراط التَّراضي ظاهرةٌ بيِّنةٌ؛ فالأصل في الأموال التَّحريم والمنع([6])؛ فلا يحلُّ شرعا التَّصرف في مال المسلم من دون إذن من الشَّارع أو المالك([7])، والتَّصرُّف فيه مع انعدام هذا الإذن نوعٌ من التَّعدِّي والعدوان والأكل بالباطل، وهو جنايةٌ توجب التَّغريم والتَّأثيم، وهذا أمرٌ مقررٌ في الشَّريعة الإسلامية على وجه القطع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا »([8])، وقال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ دمه، وماله، وعرضه»([9])، يقول الإمام الصَّنعاني ـ رحمه الله ـ : « وَفِي قَوْلِهِ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ» إخْبَارٌ بِتَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ عِلْمًا قَطْعِيًّا» ([10]).

ومن حِكَم اشتراط الرضا في المعاملات درءُ الخصومات ورفعُ النزاعات، وتحقيقُ التَّبادل على أساسٍ من العدل والإحسان والمعروف والمصلحة، بعيدا عن وجوه الغشِّ والغرر، والخديعة والمكر، والتَّدليس والكتمان، وسائر ما يكون سببا في حصول البغضاء والعداوة بين المتعاملين، وقد نهت الشَّريعة الإسلامية عن ذلك كلِّه في نصوص معلومة مشهورة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من غشَّنا فليس منَّا»([11])، وقوله صلى الله عليه وسلم: « لا تناجشوا»([12]).

ومن أعظم المنهيات التي تقدح في الرضا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغرر([13])، وهو ما لا يدرى أيحصل أم لا يحصل([14])؟. وقال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ في بيان حقيقته: « هو ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه”([15]).

والقصد من النَّهي عن الغرر في المعاملات سلامةُ العقد من المخاطرة والمقامرة التي توجب انتفاء الرَّضا على الحقيقة، يقول الله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)([16])، قال الإمام ابن رشد الجد (ت:520هـ): « معناه: تجارةٌ لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار؛ لأنَّ التراضي بما فيه غرر أو خطر أو قمار لا يحل ولا يجوز، لأنَّه من الميسر الذي حرمه الله في كتابه»([17]). واتضح بهذا أنَّ الغرر المؤثِّرٌ يقدح في الرِّضا، يقول العز بن عبد السلام: «لأجل قاعدة اعتبار الرضا نهى الشرع عن بيع الغرر»([18]).

والرِّضا في الأصل أمرٌ خفيٌّ وعملٌ قلبي باطن لا يمكن الاطِّلاع عليه، ولكنَّ الشَّريعةَ أقامت الصِّيغ والألفاظ مقام الرضا لدلالتها عليه. وهذا دأب الشَّريعة فيما يخفى من الأمور ويعسر الوقوف على حقيقته في الظَّاهر، أنَّها تُعلِّق وجودَها الباطن بما يدلُّ عليها من الأمارات والدَّلائل الظاهرة، ولهذا قال الفقهاء: « دليلُ الشَّيء في الأمور الباطنة يقومُ مقامه»([19])، يقول العلامة مصطفى الزرقا ـ رحمه الله ـ: « النَّظر الشَّرعي أنَّ ما كان كذلك، لا يبحث عن حقيقة وجوده في الواقع، بل ينظر إلى دلائله، فيقوم وجودها مقام وجوده، وترتبط الأحكام بتلك الدَّلائل وجودا وعدما، ولا يلتفت إلى احتمال خلافها»([20]).

وهذا ظاهرٌ في معنى الرِّضا في العقود والمعاملات؛ لأنَّه في الأصل في خفاء، فاعتبر ما يدلُّ عليه من لفظ أو فعل أو نحوهما، يقول الإمام أبو عبد الله المقري المالكي(ت:759هـ): «قاعدة: وهو توقف انتقال الملك على الرِّضا، لقوله عليه السلام ” لا يحل مال مسلم إلا عن طيب نفس”، فلا بدَّ من رضا معتبر، لكنَّه لما تعذَّر الوصول إليه، اعتبر ما يدلُّ عليه من لفظٍ اتفاقا، أو من لفظٍ أو فعلٍ»([21])، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728هـ): « العقود تنعقد بكل ما يدل على مقصودها»([22]). وقال أيضا: «العلم برضا المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا»([23]).

وتعليلُ هذا النظرُ إلى القصد دون اللَّفظ، واعتباره في الدَّلالة على مراد المتكِّلم، فالألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي دلائلُ يُستدلُّ بها على مقصد المتكلِّم ومراده([24])، وأصول الشَّريعة تدلُّ على هذا. واعتبار المقاصد هو الذي يتوافق وسماحة الشريعة وعمومها ووفائها بمتطلبات العباد، وحاجاتهم، ومصالحهم إلى قيام السَّاعة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: « وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها، من أنَّ العقود تصحُّ بكلِّ ما دلَّ على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدلُّ عليها أصول الشَّريعة، وهي التي تعرفها القلوب »([25]).

وتفريعا على هذه القاعدة صحَّح جمهور الفقهاء انعقاد العقود المالية بالمعاطاة التي يسمِّيها بعض الفقهاء بالدَّلالة الحالية أو الصيغة الفعلية([26])؛ لأنَّها معبرةٌ عن الرِّضا عرفا، وتقوم مقامه، يقول الإمام القرافي: «الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ، فَجُعِلَتْ الصِّيَغُ وَالْأَفْعَالُ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ قَائِمَةً مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ يُظَنُّ عِنْدَهَا»([27]).

والمقصود: أنَّ الشَّارع لم يتعبَّدنا في العقود والمعاملات بألفاظ مخصوصة معينة لا نتجاوزها، وإنما مناطُ انعقادها الأول هو الرِّضا، فكلُّ ما يدلُّ عليه اعتبر، وهذا عام في البيوع، والتوثقات، والإجارات، والمشاركات، والأوقاف، والوصايا، والهبات، وسائر العقود، سواء كانت من جنس المعاوضات أو التبرعات.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. () ـ انظر: القرافي؛ شهاب الدين: الفروق (2/185).
  2. () ـ سورة النساء: 29.
  3. () ـ النساء: 4.
  4. () ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم: 4967، وابن ماجة في سننه رقم: 2185 عن أبي سعيد الخدري.
  5. () ـ أخرجه أحمد في المسند رقم: (20695)، والبيهقي في السنن الكبرى رقم:(11545)، وصححه الألباني في إرواء الغليل رقم: 1459.
  6. () ـ انظر: البحر المحيط للزركشي (8/11).
  7. () ـ من قواعد مجلة الأحكام العدلية، قاعدة: « لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذنه»، انظر: أحمد الزرقا؛ شرح القواعد الفقهية (ص461)، مصطفى الزرقا؛ المدخل الفقهي العام (2/1040).
  8. () ـ أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض” رقم: ( 7078)، ومسلم في الصحيح، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، رقم: (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
  9. () ـ أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، رقم: (2564) .
  10. () ـ سبل السلام (2/673).
  11. () ـ أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، رقم: (101).
  12. () ـ أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر رقم: (6065)، ومسلم في البيوع رقم: (1515)
  13. () ـ أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب البيوع، رقم: (1513) .
  14. () ـ انظر: القرافي؛ الفروق (3/265).
  15. () ـ انظر: المصدر السابق (3/266) .
  16. () ـ سورة النساء: 29 .
  17. () ـ المقدمات الممهدات (2/72).
  18. () ـ العز بن عبد السلام؛ قواعد الأحكام (2/300) .
  19. () ـ انظر: مجلة الأحكام العدلية، المادة:68.
  20. () ـ المدخل الفقهي العام (2/1052).
  21. () ـ المقري؛ القواعد (ص400).
  22. () ـ القواعد النورانية ( 2/290).
  23. () ـ مجموع الفتاوى (29/20).
  24. () ـ انظر: ابن القيم؛ إعلام الموقعين (1/218).
  25. () ـ القواعد النورانية الفقهية (2/303).
  26. () ـ انظر: القرة علي داغي؛ الرضا (2/926).
  27. () ـ الفروق (2/166) .

اترك تعليقاً