وقفات فقهية وأصولية مع آية الدين (1)
وقفات فقهية وأصولية مع آية الدين (1) د. فتحي لعطاوي جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية مدرب معتمد في…
وقفات فقهية وأصولية مع آية الدين (1)
د. فتحي لعطاوي
جامعة الجزائر1- كلية العلوم الإسلامية
مدرب معتمد في المالية والمصرفية الإسلامية-نادي الاقتصاد الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأتم الصلاة وازكى التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد:
فإنّ القرآن العظيم هو كلام رب العالمين، وحبله المتين، وحجته على خلقه أجمعين. أنزله سبحانه هداية دائمة، وجعله للشرائع السماوية خاتمة، وأودع فيه من أسرار الإعجاز، ووجوه المناسبات، وبلاغة النظم، وأساليب البيان، ما يعجز الانسان عن وصفه أو بلوغ كنهه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويكفيك أنه تحدّى به الإنس والجن فعجزوا عن معارضته، واستعصى عليهم الإتيان بمثله. قال تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ [الإسراء: 88].
وقد أحببت أن يكون هذا المقال مدخلا لسلسلة مترابطة تتّخذ من آية الدين موضوعا للدراسة ومرجعا لبعض الاستنباطات الفقهية والاستدلالات الأصولية بعون الله تعالى وتوفيقه؛ فيقال:
يقول رب العزة سبحانه وتعاظم سلطانه: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم﴾ [البقرة: 282].
هذه الآية السنيّة تُعرف بآية الدين أو آية المداينة؛ وهي أطول آية في القرآن العظيم ومن أواخره نزولا، بل قيل إنها آخر ما نزل من القرآن[1]، فقد أخرج الإمام القاسم بن سلام في كتابه “فضائل القرآن” عن ابن شهاب الزهري-رحمه الله-أنّه قال: (آخر القرآن عهدا بالعرش: آية الربا، وآية الدين)[2]. وأخرج الإمام الطبري من طريق الزهري عن سعيد ابن المسيب-رحمه الله-: (أنّه بلغه أنّ آخر القرآن عهدا بالعرش آية الدين)[3].
والتحقيق العلمي يقتضي بأنّها “آخر ما نزل في باب «المعاملات»؛ فهي آخرية مقيدة، لا مطلقة”-كما حرّره الأستاذ أبو شهبة-رحمة الله عليه-[4].
ولا شك أن تميّز هذه الآية بطولها من بين سائر الآيات، وكونها آخر ما نزل في باب المعاملات، له دلالات هامة حقّ لنا أن نقف عندها، ونتساءل عن الأسرار الكامنة من ورائها.
ومن صفوة ما ذكره العلماء والمفسرون بهذا الشأن أنّ الله تبارك وتعالى إنّما أوقفنا هذه الوقفة الطويلة في ظلال هذه الآية الكريمة، عند أمر الدَّين والتأكيد على كتابته والإشهاد عليه[5]؛ تنبيهًا إلى مقصد حفظ المال، وتنويها بشأن التوثق في المداينات والتعاملات، لأنّ ذلك مدعاة إلى ضمان الحقوق، وصيانة العلاقات، وحسم مادة الخصومات، إذ الغفلة والنسيان من طبيعة الإنسان، والقلوب متقلّبة، والنفس الأمارة بالسوء قد تكون المتغلّبة، والعوارض من موت أو غيره قد تطرأ في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل[6].
ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- أنّه قال: لما نزلت آية الدين، قال رسول الله ﷺ: ((إنّ أول من جحد آدم عليه السلام، أو أول من جحد آدم، إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو من ذراري إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر، فقال: أي رب، من هذا؟، قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره؟، قال ستون عاما، قال: رب زد في عمره، قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاما، فكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه، قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما، فقيل: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلت! وأبرز الله عز وجل عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة))[7].
يقول الأستاذ وهبة الزحيلي-رحمة الله عليه-: (إنّ الذي أمر الله تعالى به في آية الدين من الشهادة والكتابة؛ قصد به الحفاظ على وشائج الودّ والصلة والمحبة وصلاح ذات البين بين الناس، ومنع وقوع التنازع المؤدي إلى فساد علاقات الناس، وسدّ كل المنافذ أمام الشيطان الذي قد يسوّل للمدين جحود الحق، وتجاوز ما حدّ له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق)[8].
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ التوثيق تبرز أهميته أيضا في بثّ الثقة بين المتعاملين وجعلهم أكثر التزاما، وهو ما يعود إيجابا ويلعب دورا كبيرا في تحفيز المعاملات، ودوران دولاب التمويلات، وإدرار الأرباح، وتنشيط الحركة الاقتصادية للأمة الإسلامية، وتحقيق مقصد الرواج والتداول.
وفي هذا الصدد يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور-رحمه الله-: ( .. إن تحديد التوثق في المعاملات من أعظم وسائل بث الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات، ودوران دولاب التمول..)[9].
ويردف بعد ذلك قائلا: (..والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأن المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطر إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأنّ المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختل نظام ماله، فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كله. وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له وهو التوثق له بالكتابة والإشهاد..)[10].
ويقول الأستاذ وهبة الزحيلي-رحمه الله-: (..وكون هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم، دليل على أنّ المال في ذاته ليس مبغوضا عند الله، وعلى أنّ الإسلام معني باقتصاديات الأمة، وأنّه دين ودولة وحياة ونظام مجتمع، وليس دين رَهبنة وفقر، وانعزال عن الحياة. فتنظيم التعامل بين الناس، وتبيان طريق حفظ الحقوق، وتعاطي التجارة وتنمية المال، يدلّ كل ذلك على أنّ الإسلام دين عمل وجهد وكفاح، وحرص على الكسب والربح من أوجه الحلال..)[11].
كان هذا مدخلا يتعلّق بمعالم آية المداينة على سبيل الإجمال، وأما توضيح جزئياتها وتحليل عباراتها بشكل مفصّل، فسيأتي تحريره لاحقا بحول الله جل وعلا، فقد تضمّنت الآية الكثير من الأحكام والمسائل، واشتملت على العديد من الفوائد والمقاصد التي استخرج دقائقها ومحّص حقائقها ساداتنا العلماء-رحمهم الله-.
قال الإمام ابن خويز منداد -رحمه الله-: (إنها تضمنت ثلاثين حكما)[12].
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي-رحمه الله- في مطلع الكلام عنها: (هي آية عظمى في الأحكام، مبيِّنةٌ جملا من الحلال والحرام، وهي أصل في مسائل البيوع، وكثير من الفروع، جماعها على اختصار مع استيفاء الغرض دون الإكثار في الثنتين وخمسين مسألة…)[13].
وسأكتفي- هنا- بهذا القدر من الإشارة، تاركا المجال لمزيد من التوسّع في العبارة والدخول في التفاصيل في المقال القادم، فللحديث بقية بإذن الله…
والله تعالى أعلى وأعلم؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين.
✍ د. فتحي لعطاوي
- موضوع آخر ما نزل من القرآن الكريم، ليس فيه أحاديث مرفوعة إلى النبي ﷺ، وإنما هي آثار مروية عن بعض الصحابة أو التابعين، استنتجوها من مشاهداتهم لنزول الوحي، وملابسات الأحوال، وقد يسمع أحدهم ما لا يسمعه الآخر، ويرى ما لا يرى الآخر، فمن هنا حصل الاختلاف في هذا الشأن وتعددت الأقوال وتشعبت الآراء. ينظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة (ص: 117). ↑
- (ص: 369). ↑
- تفسير الطبري (6/ 41). وقال الشيخ أحمد شاكر معلقا عليه: (هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب، ولكنه حديث ضعيف لإرساله، إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به). ↑
- المدخل لدراسة القرآن الكريم (ص: 119). ↑
- وقد عد بعض العلماء التأكيدات في الآية فبلغت تسعة. ويلاحظ-أيضا- أنّ صيغة الكتابة بتصريفاتها تكررت في الآية سبع مرات، وصيغة الشهادة تكررت في الآية ست مرات، ينظر: مفاتيح الغيب للرازي(7/ 90)؛ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (3/ 100)؛ التفسير المنير للزحيلي (3/ 124). ↑
- ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 328)؛ التفسير المنير للزحيلي (3/ 124).. ↑
- مسند أحمد ت شاكر (3/ 43) مسند بني هاشم- مسند عبد الله بن العباس بن عبد الطلب عن النبي ﷺ. وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر-رحمة الله عليه-. ↑
- التفسير المنير (3/ 124). ↑
- التحرير والتنوير (3/ 98). ↑
- المصدر نفسه. ↑
- التفسير المنير (3/ 107). ↑
- نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره (3/ 377). ↑
- أحكام القرآن (1/ 327). ↑