| |

وسائل علاج مشكلة التضخم النقدي من خلال الفقه الإسلامي

وسائل علاج مشكلة التضخم النقدي من خلال الفقه الإسلامي

إعداد: د. بدر المنصوري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فيحظى الجانب الاقتصادي باهتمام ورعاية وإصلاح عادة من كل الناس لما يحظى به من التأثير الكبير على جميع جوانب الحياة، فجودة إدارته واستثماره وصرفه في وجوهه؛ من أسباب نجاح الأفراد والدول واستقرارها، وهناك من الظواهر الاقتصادية ما يستدعي علاجا ووقاية من آثاره السلبية قبل وقوعه، ومن ضمن ذلك ما يعرف بالتضخم النقدي، لذلك هذه إطلالة مختصرة موضحة للموضوع، مع بيان سبل العلاج الواردة في الفقه الإسلامي.

أولا: مفهوم التضخم النقدي: لعلماء الاقتصاد تعريفات كثيرة لهذا المصطلح المركب، ولا يكاد يخفى على أحد لكثرة تداوله، ويمكن توضيحه بأنه: الزيادة في المستوى العام للأسعار.[1] فهو ارتفاع طارئ مستمر مدة من الزمن في الأسعار، ويشمل هذا الارتفاع معظم السلع والخدمات.

ثانيا: وسائل علاج التضخم النقدي في الفقه الإسلامي:

ورد في الشريعة عدة علاجات لهذه الظاهرة، بعضها ممارسات منع منها الشرع، وبعضها واجبات أوجبها على المسلم كالزكاة إذا تحققت شروطها، وبعضها صلاحيات أعطاها الولاة لدفع المفاسد.

1-تطبيق فريضة الزكاة: الزكاة كما أنها عبادة وفريضة إلا أن لها حكما وآثارا عظيمة في واقع المجتمعات لو طبقت تطبيقا كاملا صحيحا، وأساس التضخم يحدث بسبب زيادة الطلب عن العرض، بحيث يكون حجم النقود المتداولة داخل المجتمع يفوق حجم السلع والخدمات المعروضة، مما يسبب اختلالا في توازن العرض والطلب، فينتج عنه ارتفاع في المستوى العام للأسعار، ولتطبيق الزكاة أثر فعال في علاج التضخم، من خلال أمور:[2]

  • توفير التدفقات النقدية: فانتظام جمع الزكاة وانسياب حصيلتها مع حولان الحول يوفر كميات النقود اللازمة للتداول في الأسواق، مما يحول دون لجوء السلطات النقدية إلى إصدار المزيد من النقود.
  • ضبط الطلب الكلي: فبتطبيق فريضة الزكاة؛ يضمن توفير حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع، لما يجعل المجتمع بصفة عامة ينحو نحو الإقبال على السلع الأساسية، وهذا من شأنه أن يحول دون ارتفاع مستويات الطلب على الاستهلاك الكمالي.
  • تحقيق التشغيل الأمثل لطاقات الإنتاج: فالطاقات العاطلة في المجتمع تشكل أحد الضغوط التضخمية، التي تزيد حدتها في حالة التضخم الناتج عن ارتفاع التكاليف، وتعد الزكاة العلاج الأمثل للقضاء على أية طاقات إنتاجية عاطلة، لأنها تقترح حلين لاستخدام رؤوس الأموال النامية فعلا أو تقديرا: فإما أن يتم تشغيلها في أوجه الاستثمار المختلفة، وإما أن تتناقص بقسط سنوي ثابت، والمتمثل في 2.5% وهو قيمة الزكاة الواجبة فيها.[3]

2-تحريم الربا: مفاسد الربا على الاقتصاد كثيرة، وآثاره لا تظهر مباشرة وإنما على مراحل، ومن بين تلك الأضرار التي يسببها التعامل بالربا التضخم النقدي، وذلك لأن الفائدة التي تفرضها البنوك التجارية على رؤوس الأموال التي يقترضها المستثمرون وأرباب الأعمال، تجعل تكلفة الإنتاج مرتفعة، مما يدفعهم إلى الزيادة في أسعار منتجاتهم وسلعهم، لتعويض الزيادة في التكلفة والتي يتحملها كاهل المستهلكين، فيتسبب ذلك في غلاء الأسعار، والمطالبة بزيادة الأجور، كما أن ارتفاع سعر الفوائد الربوية المفروضة على القروض، يجعل المستثمرين يحجمون عن إقامة المشاريع الإنتاجية التي تعود بالنفع والرخاء على الاقتصاد القومي، ويقترح الاقتصاد الإسلامي كبديل عن الربا المشاركة في المشاريع الاستثمارية، التي يتشارك فيها كلا الطرفين -البنك الإسلامي والعميل- في الأرباح والخسائر، وبالتالي تقل تكاليف الإنتاج.[4]

3- تحريم الاحتكار: يراد بالاحتكار: حبس كل ما يضر الناس حبسه بقصد إغلاء الأسعار، فكل احتكار يدخل الضرر على الناس فإنه محرم [5]، وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحتكر إلا خاطئ.[6]

ومن الصور الداخلة في الاحتكار: أن يتفق التجار على عدم البيع إلا بسعر معين، أو أن يشتري السلع حتى تنفد أو تقارب على النفاد بقصد رفع أسعارها، ثم يقوم بعد ذلك بالبيع.

ولا شك أن للاحتكار أضرارا خطيرة على الاقتصاد، ومنها على سبيل المثال: ارتفاع الأسعار وغلاء الأثمان، والحد من الإنتاج، وهذا ما يؤدي إلى ظهور التضخم، وكذلك إفساد قانون العرض والطلب، عن طريق تقييد عرض السلع والخدمات في الأسواق، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وإلغاء حرية التجارة والصناعة، نظرا لوجود مجموعات مسيطرة على الأسواق التجارية والصناعية.[7]

وقد كان عمر بن الخطاب خليفة المسلمين، يدخل الأسواق ويراقب معاملات التجار وأسعار السلع والمنتجات، ويمنع كل تصرف قد يؤدي إلى الاحتكار.[8]

وذكر بعض الفقهاء أن من احتكر على الناس طعاما أو غيره، حتى نزلت بهم حاجة فادحة، أجبره ولي الأمر على بيع ما عنده بسعر وقته.[9]

4-جواز التسعير لدفع ضرر التضخم النقدي: يراد بالتسعير: تقدير ولي الأمر أو نائبه للناس سعرا، ويجبرهم على التبايع به، والأصل في التسعير عدم الجواز[10]، لأن التجارة لا تكون إلا عن تراض بين الناس، غير أن من الفقهاء من أجاز التسعير للمصلحة، فقالوا: إنه يجوز لولي الأمر أن يسعر على الناس سلعهم ومنتجاتهم إذا رأى في ذلك جلبا لمصلحة عامة ودفعا لمفسدة قد تلحق ضررا بالناس[11]، قال ابن القيم رحمه الله: وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم، لا وكس ولا شطط.[12]

فالغاية هي رعاية مصلحة الناس، وإقامة العدل، وهذه المصالح يقدرها ولي الأمر بعد مشورة أهل العلم وذوي الخبرة.

ولما كان التضخم النقدي عبارة عن ارتفاع مستمر في الأسعار، كان من اللازم التدخل لضبط الأسعار ومنعها من الزيادة في الارتفاع، من أجل إيقاف الحركة التصاعدية للتضخم النقدي، فكان تطبيق التسعير من الوسائل العلاجية المقترحة لوضع حد للضغوط التضخمية من الاستفحال، وهكذا فإن تطبيق التسعير لعلاج التضخم النقدي سيحقق فائدتين:

الأولى: كبح ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي لم يزد الطلب عليها، أو التي لم ترتفع تكاليف إنتاجها، حماية للمشترين من مسايرة أصحاب السلع والخدمات للاتجاه التصاعدي للأسعار.

الثانية: تشجيع الناس على الادخار ونقص الاستهلاك، فإنه في الظروف التضخمية وتصاعد الأسعار يزيد الطلب على السلع والخدمات تلافيا للشراء بأسعار أكثر ارتفاعا في المستقبل، وهذا المسلك لا يزيد الأمر إلا شدة والتضخم النقدي إلا زيادة.[13]

ويظهر من خلال هذه الوسائل العلاجية لمشكلة التضخم، صورة من محاسن الشريعة، وظهور الحكمة والمصلحة فيها، فلا تخلو الأحكام من جلب مصالح للعباد، ودرء مفسدة عنهم، والناس متفاوتون في الوصول إلى هذه المصالح، والأصل أن المسلم يمتثل أمر الله ولو لم تتبين له بعض هذه الحكم.[14]

  1. – التضخم والكساد، وضاح نجيب رجب: 20.
  2. – ينظر: الزكاة والتضخم النقدي، نعمت عبداللطيف مشهور، موقع: www.insanonline.net
  3. أسباب التضخم في الأوراق النقدية وعلاجه من منظور الفقه الإسلامي، د. حياة البرهماتي، 328.
  4. ينظر: أسباب التضخم في الأوراق النقدية وعلاجه من منظور الفقه الإسلامي، د. حياة البرهماتي:339، الوسائل الشرعية لمكافحة التضخمات النقدية، د. أحمد أبو طه: 238
  5. ينظر: المدونة (3/ 313)، العناية شرح الهداية، البابرتي (10/ 58).
  6. أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، رقم: 130.
  7. التضخم والكساد، وضاح نجيب رجب: 161.
  8. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيع، باب ما جاء في الحكرة رقم: 2595.
  9. ينظر: الطرق الحكمية، ابن القيم:205
  10. ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (2/ 730).
  11. تبيين الحقائق للزيلعي (6/ 28)، التاج والإكليل لمختصر خليل، (6/254)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 76).
  12. الطرق الحكمية، ابن القيم:222
  13. ينظر: التضخم النقدي في الفقه الإسلامي، د. خالد المصلح: 325.
  14. ينظر: مقاصد الشريعة في الاقتصاد الإسلامي، د. أحمد الريسوني، 153.