آفاق الاقتصاد الإسلامي في ظل المنظومة الرأس المالية آفاق الاقتصاد الإسلامي في ظل المنظومة الرأس المالية
بقلم. عبدالوهاب سلطان الديروي
عضو هيئة الرقابة الشرعية لمصرف خيبر باكستان وأستاذ بجامعة دار العلوم كراتشي
خلال ما يقرب من مئتي عامٍ مضت، المنظومة المالية العالمية الراهنة، تقوم على أسسٍ رأسمالية.
أصبح هذا النظام هو القاعدة، ولا يكاد يخلو بلدٌ – بما في ذلك بلداننا الإسلامية – من التعامل به. وهنا يبرز السؤال الكبير: إذا أراد المسلم أو المجتمع أو المصرف الإسلامي أن يخرج من هذا الإطار، فما الخيارات الواقعية أمامه؟
للتعامل مع هذا السؤال، لا بد من إعمال الحصر العقلي: نعرض جميع المسارات الممكنة، لندرس أيها أصلح للتطبيق. والنتيجة تتلخص في ثلاثة طرق رئيسية، يمكن النظر إليها أيضًا في ضوء الهدي النبوي.
المسار الأول: القبول الحرفي للنظام القائم
الخيار الأول يعتمد على القبول المطلق بالمنظومة الرأسمالية كما هي، باعتبارها واقعًا عالميًا لا مهرب منه، مع محاولة التكيّف الشامل. تبنّى بعض المعاصرين هذا النهج، فسعوا إلى تأويل جذري وفكري لقواعد النظام، أو إلى إعادة تسمية العقود المصرفية حتى تبدو متوافقة مع الشرع. فمنهم من سمّى الفائدة بمسميات مثل «العائد التجاري» أو «نسبة الربح» بغية إضفاء صفة الحُليّة على معاملات ربوية في جوهرها. بيد أن هذا التكيّف الحرفي لا رصيد له من الناحية الشرعية؛ فحكم الربا ثابت بالنصوص، وقد اتّفقت الأمة على تحريمه وجعلته من أكبر الكبائر. لا يجدي في تفادي هذا الحكم سوى اللجوء إلى بدائل أُخرى.
المسار الثاني: الرفض التام والنهوض من الصفر
أما المسار الثاني فيدعو إلى رفض كاملٍ للنظام القائم، والبدء من نقطة الصفر ببناء منظومة اقتصادية إسلامية مستقلة تمامًا. وتبدو هذه الفكرة جذّابة من الناحية المبدئية؛ ولكنها في الواقع تبتعد كثيرًا عن الواقعية. كيف نطالب جميع شركات العالم وبُني الاقتصاد المعقدة أن تتخلى دفعةً واحدة عن بنيتها الحالية وتنهض بنظامٍ بديل جذري؟ إن الأمر ليشبه مطلب إلغاء منظومة النقل الجوي الحديثة والعودة إلى السفر عبر الجمال والخيل. ورغم أن بعض دعاة الإصلاح ينطلقون من دوافع نقدية أو وجدانية نبيلة، فإن هذه الدعوة الطوباوية تكاد تكون بعيدة المنال في التطبيق العملي.
المسار الثالث: الإصلاح والتغيير التدريجيان
وأخيرًا، يبرز المسار الثالث كخيارٍ واقعيٍّ وأقرب إلى منهج السيرة النبوية: وهو المسلك الذي يقوم على مبدأ «خذ ما صفا واترك ما كدّر». باختصار، الاحتفاظ بكل ما هو مباحٍ ونظيف من تعاملات مالية، والسعي إلى تعديل ما فيه خلل أو معيب. فالشرع حين جاء لم يُلغِ المعاملات المشروعة التي كان يعتمدها الناس قبل الإسلام، بل صحّحها بوضع شروط وضوابط تقضي إبطال القسمة الربوية وتحويلها إلى صيغ بديلة. وجرى تطبيق هذا المبدأ عمليًّا في عمل البنوك الإسلامية اليوم: فهي لا تنسحب كليًّا من الحقل المالي العالمي، بل تعمل ضمنه على استبدال أدوات الربا بصيغ تمويلية مشروعة. فعلى سبيل المثال، عقود المرابحة (بيع السلعة بثمن معلوم مع إضافة هامش ربح معلن) جائزةٌ بإجماع الفقهاء منذ عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعقد المضاربة يُعرَّف بشركة بين صاحب المال والعامل يتم الاتفاق فيها على تقسيم الأرباح،وغيرهما من عقود المشاركة والإجارة وغيرها توفر بدائل توافق مقاصد الشرع ومبادئ العدالة الاقتصادية. وكانت معمولا بها إلا أنه صلى الله عليه وسلم أدخل فيها إصلاحات لتتوافق مع الشريعة الإسلامية.
وقد عهدنا في كتب الفقه الكلاسيكية التي نتدارسها عبارة مفادها: ” بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملون بكذا…. ” فأقرهم عليه ، وهي تشير إلى هذا المبدأ في الهدي النبوي، وأقرب مثال لذلك ما جاء في بيع السلم ، كان الناس يتعاملون به قبل البعثة، وارتبطت به حاجة المفاليس ، وكانت فيه مفاسد، فلم يلغه الشرع، ولكن سذّ أبواب فساده بوضع شروط وأحكام.
ولنفهم الموضوع بدقة ، نستعين بأمثلة استفدناها من مشايخنا الكرام في حلقات دروسهم.
أمثلة توضيحية
مثال الاختناق المروري (ما ذكره شيخنا الإمام محمد رفيع العثماني رحمه الله تعالى): إذا تعطَّل السير في طريق رئيسي، فمن الحكمة ألا يظلَّ السائقون جامدين ينتظرون تحرُّك الزحام. بل يبحثون فورًا عن طرق بديلة عبر الأزقة أو الممرات الجانبية ليواصلوا رحلتهم. وبالمثل، فإنَّ المصرف الإسلامي لا ينتظر انهيارَ النظام المالي العالمي ليغيّر مساره؛ بل ينفتح على ممرّاتٍ شرعيّة تساعده في مواصلة أداء دوره وتحقيق أهدافه من دون الاعتماد على الربا.
مثال الفيل العالق في الوحل (على نحو ما ذكره مولانا الشيخ زاهد الراشدي حفظه الله تعالى): عندما تقبع أرجُل الفيل في وحلٍ عميق، لن يُفلِت الفيل أرجُلَه دفعةً واحدة ليخرج. بل يجمع طاقته ويجاهد بساقيه تدريجيًّا، فلا تخرج أيٌّ من أقدامه إلا بعد أن يخفَّ وزنه عنها. وهذا المثال يُظهر أن التغيير التدريجي من داخل المنظومة – بالرغم من شدة التحديات – أقرب إلى النجاح من محاولة تغيير خارجيٍّ منعزلٍ عن الواقع.
وعليه فإن المسلك العملي والشرعي الأمثل هو المسار الثالث: الإصلاحُ التدريجي. فهذه الطريق تتوافق مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المحافظة على الأصل الصحيح من المعاملات وتعديل معائبها، كما تمثّل الخيار الأكثر واقعية وفاعلية. وباتباع خطوات منهجية مدروسة مع مراعاة أحكام الشريعة، يمكن للمؤسسات المالية الإسلامية أن تقلّص تدريجيًا من آثارجِ الربا في الاقتصاد العالمي وتخطو نحو اقتصاد أكثر عدلاً وإنصافًا. وعلى المستوى المؤسساتي، تُعدّ المصارف الإسلامية اليوم خطوة أولى على الدرب الطويل نحو منظومة اقتصادية خالية من الفائدة؛ مسار ممكن وعقلاني متوافق مع مقاصد الشريعة. إنَّ هذا المنهج الاعتدالي لا يُهمل الثوابت الدينية ولا يغلق باب الاجتهاد؛ بل هو السبيل الذي يقدّم أملًا حقيقيًا في تحقيق اقتصادٍ إسلاميٍّ فاعلٍ ومستدام…

