البدائل الشرعية للمعاملات المالية المحرمة و علاقتها بالحيل الشرعية
البدائل الشرعية للمعاملات المالية المحرمة و علاقتها بالحيل الشرعية
بقلم أ د باسل محمود عبد الله الحافي
مقدمة:
تعريف البدائل الشرعية
تعريف الحيل الشرعية
نماذج من البدائل
1- البديل الأول للاقتراض بالربا بيع المرابحة للآمر بالشراء و تخريجه الفقهي على مسألة الوعد بالعقد 0
2- البديل الثاني : عقد التورّق ( و يسميه الشافعية بالزرنقة )
3- البديل الثالث : البديل الشرعي عن التأمين التجاري هو التأمين التعاوني .
أولاً : تعريف البدائل الشرعية :
1 – تعريف البدائل لغةً :
البدائل في اللغة العربية : جمع مفرده بدل ، و بديل ، و مصدره الإبدال ، و منه فعل استبدل يستبدل إبدالاً أو استبدالاً .
و الاستبدال أو التبديل و التبديل : هو جعلُ الشيءِ مكان آخر ، أو قيام الشيء مقام الشيء الذاهب على جهة التعاقب الزماني ، و قد يطلق التبديل على التغيير ، والتبديل أعم من العِوض إذ المقصود بالعوض أن يصير لك الشيء الثاني مقابل إعطاء الشيء الأول ، و منه سميت عقود المعاوضات ، أما التبديل فلا يشترط فيه إعطاءُ شيء ، و هو يكون من فعل فاعل مثل الله – تعالى – كما في قوله ( فأولئك يُبدّل الله سيئاتهم حسنات ) الفرقان 70 ، و قد يكون التبديل من فعل الشخص نفسه كما في قوله ( فبدّل الذين ظلموا قولاً غيرَ الذي قيل لهم ) البقرة 59 . [1] و قد يكون التبديل من باب استبدال الشيء بما هو أدون منه ، كما في قوله تعالى – منكراً على بني إسرائيل – : ( …. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) البقرة 61 ، حيث طلبوا استبدال ما رزقوا في التيه من المن و السلوى ، بما هو أدنى منه من البقل و القثاء – ( الخيار ) – و الفوم – ( الحنطة أو الثوم ) – و العدس و البصل ، فجاء الإنكار عليهم لاستبدال الأعلى و الأجود و الأطيب بما هو دونه [2] .
- و قد يكون الاستبدال أو التبديل من باب استبدال الشيء بما هو أفضل منه ، و هو موضوع محاضرتنا ، حيث سنتحدث عن استبدال صور من المعاملات المحرّمة ، بصور من المعاملات الحسنة المباحة ، ليكون ذلك سبباً في رفع الإثم ، و نيل رضى الله عز وجل ( فأولئك الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ) .
2 – تعريف البدائل اصطلاحاً :
لم يهتم الفقهاء و علماء الأصول بالتعريف الاصطلاحي للتبديل أو الاستبدال ، و الظاهر أنهم اعتمدوا المعنى اللغوي ، و إنما ذكروا بعض أوصافه أو أحكامه ، كقول الإمام محمد بن أحمد بن أبي سهل الحنفي- رحمه الله – في أصوله : ( البدل يقوم مقام الأصل ، و حكمه حكم الأصل ) ، و كقول الإمام الفخر الرازي- محمد بن عمر بن الحسين ، الشافعي – في المحصول ( البدل الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه ) .
3- الشرعية : نسبةً لأحكام الشريعة ، فقد شرع الله – تعالى – البدائل الحلال المباحة ، حتى نترك الأشياء السيئة المحرّمة ، و هذا من باب الرحمة ، و المنة ، و قد جاءت تلك البدائل لتعين المسلم على ترك الحرام ، و تعزز سلوكه الإيجابي بفعل الحلال أو المباح ، و بيان فضله و فائدته في الدنيا ، و أجرهُ و ثوابه في الآخرة .
ثانياً : تعريف الحيل الشرعية ( فقه المخالص ) :
1 – تعريف الحيل لغةً :
الحيل جمع مفرده حيلة : و تطلق في اللغة على عدة معانٍ منها ( الحذَق و جودة النظر و القدرة على دقة التصرف ، و منها ما يُتوصّلُ بهِ إلى حالة ما خُفيَةً ، و منها الدوران حول الشيء لإدراكهِ ) و هذه المعاني لها صلة بالمعنى الاصطلاحي .
2- تعريف الحيل اصطلاحاً :
يختلف تعريف الحيل بحسب نوعها ، و قد قسمها الفقهاء إلى نوعين :
أ – حيل محرمة : و قد عرفها الإمام الشاطبي – رحمه الله – بأنّها : ( تقديمُ عملٍ ظاهر الجواز لإبطال حكمٍ شرعي و تحويله في الظاهر إلى حكمٍ آخر ) . [3]
و مثاله أن ينقل الإنسان ملكية أمواله لأحد أقاربهِ أو لزوجته ، قبل حولان الحول ، لإسقاط وجوب الزكاة بعدم تحقق شرطها ( حولان الحول )، بعد تحقق سببها ( ملكية النصاب ) .
ب – حيل مباحة : و يسميها الحنفية ( فقه المخالص ) لأنّ غايتها تخليص الناس من الحرام ، أو رفع الضيق و الحرج عنهم ، و قد عرّفوها بأنها : ( تقليب الفقيه الفكرَ حتى يهتدي إلى المقصود ، و المقصود هو التخلص من الحرام ، أو رفع الضيق و الحرج عنهم ) . [4]
و معناها أن يستخدم الفقيه شيئاً ، أو فتوى لتخليص المسلم من الوقوع في الحرام :
- و مثاله أو الأصل فيه قوله – تعالى – لأيوب عليه السلام : ( و خذ بيدك ضِغثاً فاضرِب بهِ و لا تحنث ) سورة ص 44 .
- و كان أيوب عليه السلام قد حلف يميناً حال مرضه أن يجلد زوجته مائة جلدة إن شفاه الله – تعالى – و ذلك لأنها أظهرت شيئاً من التضجّر بسبب طول مرضه ، فلما شفاه الله شعر بالحرج من هذه اليمين لطول خدمتها له و صبرها عليه ، فجاءت الفتوى من الله لتخليصه من الحنث باليمين بأنْ يأخذ ضغثاً أو غصناً من أغصان النخل فيه تسعة و تسعون شمروخاً أو عوداً و يضربها به ضربة واحدة فيكون قد جلدها مائة جلدة .
- و مثاله أيضاً أن يستخدم الفقيه فسخَ عقدِ النّكاحِ بالمخالعةِ على مالٍ -( بلفظ ِالخُلع / لا الطلاق على مال ) – حتى يتخلص من الطلاق الثلاث المُعلّق على فعلٍ ما ، ثم يعقد على زوجته عقداً جديداً بمهرٍ جديدٍ ، فيكون بذلك قد تخلص من ذلك الطلاق المعلّق ، لأنَّ فسخ العقد يهدم العقد و كل ما تعلّق بهِ كالطلاق المعلّق .
- و بذلك يظهر الرَّابط بين البدائل الشرعية ، و التخلص من المعاملات المحرّمة – كالمعاملات الرّبوية – ، و بين الحيل الشرعية ، بحيث يستخدم الفقهاء بعض الفتاوى التي يتوسل بها بوسائل مباحة ليتمكن من التخلص من المعاملة المحرمة فتعينه تلك الفتوى على ترك الحرام ، و تُمكّن عنده فعل الحلال أو المباح .
- ملاحظة : إن ربط البديل الشرعي بناء على الحيلة الشرعية ، يكون عن طريق عملية شرعية اجتهادية تسمى في علم أصول الفقه بـ ( التخريج ) ، و هي عملية تخريج فقهي أصولي ، يقوم بها فقيه وصل إلى رتبة مجتهد التخريج في المذهب ، حيث يقوم بإلحاق النازلة التي لم يتحدث عنها إمام المذهب أو أصحابه ، بقياسها على أصل من أصول المذهب أو إلحاقها بقاعدة من قواعده فتكون الفتوى الصادرة عن هذا التخريج هي أساس هذه الحيلة الشرعية التي ينهض عليها البديل الشرعي ، و سيظهر ذلك من خلال الأمثلة لهذه البدائل .
- و لابد من التنبيه هنا إلى أنّ تحريم كثير من المعاملات المصرفية سببه راجعُ إلى تحريم الربا شرعاً ، و قد نقل الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي إجماع الفقهاء على تحريم الربا بنوعيه ، فقال : ( وأجمعت الأمة على أنّ الرّبا مُحرّمٌ ) ثم بيّن نوعي الربا المحرم و هما : ربا الفضل و ربا النسيئة . [5]
- أما دليل التحريم ، (و هو مستند الإجماع ) فالحديث المتفق عليه : ( لعن النبي – صلى الله عليه و سلم – آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) و اللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى ، و هو أثرٌ من آثار التحريم ، و دليلٌ على أنَّ الرّبا من كبائر الذنوب .
- و الربا نوعان :
النوع الأول : ربا الفضل ، و يسمى ربا البيع ، و يسمى أيضاً ربا السنة لأنّه ورد تحريمه في السنة ، و الأصل فيه حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ) و معنى هاء و هاء : أخذ و عطاء ، و في رواية ( فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ ) . [6]
و حديث : أبي سعيد – رضي الله عنه – قال : [ جاء بلالٌ إلى النبي – صلى الله عليه و سلم – بتمر بُرني – و هو تمرٌ فاخر من تمر خيبر – فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : من أين هذا يا بلال ؟ قال : كان عندنا تمر رديء فبعتُ صاعين بصاع ليطْعمَ النبيٌّ _ صلى الله عليه و سلم – فقال النبي – صلى الله عليه و سلم – : أوه ، عينُ الرّبا ، عينُ الرّبا ، لا تفعل ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به ] متفق عليهما [7]، و في رواية : ( بع الجمع بالدّراهم و ابتع بالدراهم جنيباً ) [8] و هذه حيلة شرعية للتخلّص من الربا ، و هي إدخال وسيط مالي من النقود ، ثم يشتري ما يشاء التمر الفاخر بالنقود .
- و حتى نفهم ذلك لابد من معرفة معنى ربا الفضل هذا ، فربا الفضل أو الزيادة معناه بيع شيءٍ من الأصناف الستة المذكور في الحديث بشيءٍ من نفس الجنس مع الزيادة و التفاضل ، كأن يبيع 10 جرام من ذهب قديم بـ 9 جرام من ذهب جديد ، أو 10 كغ من قمح بـ 9 كغ من نوع آخر من القمح ، فالزيادة هي عين الربا المحرّم ، و لا عبرة للجودة و الرّداءة ، فلو باع ذهباً قديماً مكسراً بذهبٍ جديدٍ مع الزيادة و التفاضل فهو ربا محرّم ، و البديل أو الحيلة الشرعية للتخلص من هذا الربا أن نُدخل وسيطاً من النقود ، فيُباع الذهب القديم بالنقود كالدينار و الريال ، ثم يشتري البائع ما يشاء من الذهب الجديد ، و هذا يسري على الأصناف الستة المذكورة في الحديث : ( الذهب ، الفضّة ، القمح ، الشعير ، التمر ، الملح ) ، و يسري على ما يقاس عليها على اختلاف بين الفقهاء في علة التحريم ، ( فيسري على ما يباع بالكيل و الوزن على مذهب الحنفية و الحنابلة ، أو على الأثمان و المطعومات عند الشافعية ، أو على الأثمان و الأقوات عند المالكية ) …..
- وقد اشترط النبي – صلى الله عليه و سلم – في حديث عبادة ابن الصامت لصحة بيع المال الرّبوي بمالٍ ربويٍ من نفس الجنس شرطين :
الشرط الأول : التماثل في الكيل أو الوزن ، فإذا اختل ميزان التماثل ، حصل ربا الفضل
الشرط الثاني التقابض في مجلس العقد ( يداً بيد ) فإذا لم يحصل التقابض ، حصل ربا النسيئة ، و يستثنى من هذا الشرط – بإجماع الفقهاء – ما إذا كان أحد العوضين في البيع من النقود كالدنانير الذهبية ، أو الدّراهم الفضية ، فهنا لا يشترط التقابض ، بل يجوز بيع النسيئة ، أي البيع مع تأخير قبض الثمن ، و منه بيع التقسيط ، و هو بيعُ جائز عند جمهور الفقهاء بشرط أن لا يُذكر فيه إلاّ ثمنٌ أو سعر واحد فقط ، فإذا ذُكر في العقد سعران صار بيعاً ربوياً محرّماً ، كأن يقول له بكم هذه السيارة ، فيقول : تقسيطاً بخمسة عشر ألف دينار ، و نقداً بعشرة آلاف ، و الحيلة ، أو البديل للتخلص من هذا الرّبا المحرّم هو إنهاء مجلس العقد بأنْ يخرج المشتري من متجر السيارات ، ثم يعود فيقول بكم هذه السيارة تقسيطاً فيقول له بخمسة عشر ألفاً فيتبايعان على ذلك و لا يذكران إلا سعراً واحداً .
- و دليل تحريم ذكر سعرين أو ثمنين في البيع هو حديث : ( نهى النبي – صلى الله عليه و سلم عن بيعتين في بيعة ) بحسب تفسير الإمام محمد بن إدريس الشافعي – رحمه الله – لهذا الحديث ……
النوع الثاني : من أنواع الربا هو ربا النسيئة ، و يسمى ربا القرض لأنّ سببه القرض ، و يسمى ربا القرآن ، لأنه ورد تحريمه في القرآن ، و يسمى ربا الجاهلية لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتعاملون به ، ( و الحقيقة أن هذا الربا يجمع بين ربا الفضل أو الزيادة ، و ربا النَّسيئة ) ، و هذا الربا هو الذي أشار إليه الحديث : ( و ربا الجاهلية تحت قدمي موضوع ، و أول ما أضع ربا عمي العباس بن عبد المطلب .. ) و معنى موضوع أنه باطلٌ شرعاً مع التحريم ، فالتحريم هو الحكم الشرعي من حيث الوصف الشرعي القائم في الماهية ، و البطلان هو الحكم الشرعي من حيث الأثر النوعي المترتب على الماهية .
و دليل تحريم هذا النوع من الربا في القرآن آيات منها قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون ) آل عمران 130
- و هذا ربا أهل الجاهلية كما ورد تفسيره في السنة : فقد كان أهل الجاهلية يقترض أحدهم مبلغاً من المال لأجلٍ محدد كسنةٍ ، فإذا جاء موعد سداد الدَّيْن ، قال المقرض للمقترض : إمّا أن تقضي أو تُربي – يعني تزيد مبلغاً من المال يضاف إلى أصل الدَّيْن مثل : 10% ، فيقول : بل أٌربي ، فيزيدان على الدين ، و هكذا يفعلان في العام الذي يليه …. حتى يتضاعف المبلغ أضعافاً كثير ، فإن عجز أخيراً عن سداد الدين صار المقترض عبداً عند المُقرض ( و هكذا تُستعبد الدّول التي تقترض في هذه الأيام من صندوق النقد الدولي ، أو من البنك الدولي عندما تعجز عن الوفاء فيتم التحكم بسياساتها الاقتصادية المتعلقة بالإنفاق ، و تُفرض عليها سياسة التقشف ) .
- و لا يُفهم من قوله في الآية ( أضعافاً مضاعفة ) جواز التعامل بالربا إذا كان قليلاً كنسبة : 5 – 10 % ، لأن الفقهاء قالوا هذه الآية ليس لها مفهوم مخالفة ، و هو ما يسمى عند علماء الأصول ( دليل الخطاب ) ، لأن الغاية من إيراد هذا اللفظ في الآية إنكار ما كان يفعله أهل الجاهلية ، و ليس الغاية أن الله تعالى وضع هذا القيد يريد به المفهوم المخالف ، لذلك ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ، و ابن أبي شيبة في المصنف ، من حديث عبد الله بن حنظلة ( غسيل الملائكة ) – رضي الله عنه – : أنَّ النبي – صلى الله عليه و سلم قال : ( دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً ) ، و الدرهم عملة من الفضة تزن 3.5 جرام ، فأكل هذا المقدار القليل من الربا عمداً ، أثمه أشد من إثم أن يزني الرجل ستةٍ و ثلاثين مرّة ، مع ما في الزنا من إثمٍ عظيم .
- و لابد هنا من التنبيه إلى أمرين :
الأمر الأول : أن ربا الجاهلية هذا هو ما تتعامل به البنوك الربوية في هذا الزمان منذ أنشئت ، حيث يطلب الرجل قرضاً منها كمئة ألف دينار ، فيعطى مثلاً 90 ألفاً ، و يخصم عليه قيمة الفائدة الربوية مباشرة ، و قد أفتى جماهير العلماء و المشايخ في هذا الزمان بتحريم هذا التعامل لأن فيه ربا أهل الجاهلية ( و لا يلتفت إلى بعض الفتاوى من هنا و هناك التي تبيح مثل هذا التعامل بحجة أن نسبة الربا ضئيلة ، لما ذكرتُ من أدلة تحريم الربا و إن كان قليلاً )، و سأذكر إن شاء الله بعض البدائل الشرعية التي يستعيض المسلم بها عن هذا التعامل المحرّم .
الأمر الثاني : أن الذي اخترع هذا النوع من الربا ، و اخترع البنوك و المصارف الربوية في العالم هم المرابون اليهود ، فقد كانوا يضعون مكاتب في الأسواق الأوربية ( في الدولة الرومانية الغربية القديمة ) فيقرضون الناس مقابل فؤائد ربوية ، و قد كانت هذا المكاتب تسمى بلغتهم ( بانكو ) ، ومنه تطورت فكرت البنك ( باللغة الإنجليزية ) فنشأت البنوك الربوية التي انتشرت في العالم انتشار النار في الهشيم ، و يشير لهذه الحقيقة الرواية الشهيرة المسماة ( تاجر البندقية ) للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير، ويُعتقد أنها كُتبت بين عامي 1596 و1598 م ، و تتحدث عن قصة شاب كان يعيش في مدينة البندقية – ( في إيطاليا و هي مكان قيام الدولة الرومانية القديمة ) – اسم هذا الشاب ( أنطونيو) يضطر للاقتراض من تاجر يهودي اسمه شايلوك ، و يشترط عليه هذا التاجر إن عجز عن سداد الدين أن يأخذ دمه …. و هذه الرواية لها حبكة درامية مشوقة ….. . [9]
- سأشرع فيما يأتي ببيان بعض البدائل الشرعية للمعاملات المصرفية الربوية ، مع بيان الحيلة الشرعية التي نهضت عليها هذه البدائل ، أو الفتوى التي خرّجت عليها تلك البدائل :
المثال الأول :
البديل الأول للاقتراض بالربا بيع المرابحة للآمر بالشراء و تخريجه الفقهي على مسألة الوعد بالعقد :
- و عقد المرابحة للآمرِ بالشراء هو عقد معروف عند الناس ، جرى التعامل به في هذا الزمان عن طريق المصارف أو المؤسسات المالية ، و ملخصه أنّ محدود الدخل كالموظف إذا أراد أن يشتري سلعة لا يستطيع دفع ثمنها نقداً ، فإنه يأتي إلى المصرف الذي ينزل راتبه فيه ، و يطلب منه شراء سيارة معينة من متجر معين ، فيقوم البنك بشراء السيارة و يدفع ثمنها نقداً ، و يحوزها الموظف المختص ، ثم يبيعها لهذا (الموظف العميل ) ، بأقساط محددة في فترة محددة ، مع زيادة في ثمنها تعدّ ربحاً للمصرف ، لذلك سمي هذا العقد عقد مرابحة ، و عقد المرابحة من عقود الأمانة التي تكلم عنها الفقهاء – ( و هي ثلاثة : المرابحة ، و التولية ، و الحطيطة ) – ، و عقد المرابحة هذا قائمٌ على أساس تحديد ثمن المبيع الذي قام على البائع مع زيادةِ ربحٍ معلومٍ ، كأنْ يقول : هذا المبيع قام عليّ بتسعين ألفاً ، أو قام عليَّ بهذا المبلغ ، و أنا أريد أن أبيعه بمائة ألف ، و العشرة هي الربح . و الإشكال الذي يرد على هذا العقد : ما هي الطريقة التي يمكن إلزام العميل الذي أمرَ المصرفَ بالشراء ، و وعده أنْ يشتري السيارة منه تقسيطاً ؟
- بحث الفقهاء المعاصرون فوجدوا أن طريقة الإلزام تكون بتخريج هذه المسألة على مسألة فقهية اختلف فيها الفقهاء قديماً ( هي الوعد بالعقد ) .
- و المقصود بالوعد بالعقد – كما عرفه أستاذنا الدكتور فتحي الدّريني رحمه الله – بأنّه : مجرد إخبار عن إنشاء أمر – أو عقد – ٍ في المستقبل دون التزام لهُ في الحال .
- اختلف الفقهاء في هذه المسألة على خمسة أقوال ذكرها ابن رشد ، الجد ، الفقيه المالكي في كتابه : البيان و التحصيل .[10] أهمها ثلاثة :
- المذهب الأول : مذهب جمهور الفقهاء ( الحنفية و الشافعية و الحنابلة ) : لا يُلزم بالوفاء به قضاء، لكن الوفاء به مستحب مطلوب ديانة، وهو من مكارم الأخلاق .
المذهب الثاني : مذهب عبد الله بن شبرمة ، قاضي الكوفة ( ت : 144 هـ ) ، و هو قولٌ عند المالكية : يلزم الوفاء به مطلقاً، ويُقضى به على الواعد ويجبر عليه قضاءً .
المذهب الثالث : يلزم الوفاء به، ويقضى به إذا كان الوعد مقروناُ بسبب، ودخل وقته ، أي : دخل وقت الموعود لأجلهِ ، و هذا القول المشهور في مذهب المالكية ، لأنه إن لم يف به لحقَ الضّررُ بالموعود كمن طلب قرضاً ليتزوج ، فوعده بذلك فقام فخطب امرأةً .
و بناءً على تخريج مسألة المرابحة للآمر بالشراء على قول المالكية ، و قاضي الكوفة ابن شبرمة ، بإلزام العميل بشراء السلعة المتفق عليها ،امتلكت المصارف سلطة تلزمه بإتمام العقد و شراء السلعة ، عن طريق القضاء ، على أنْ يقوم بالوفاء عن طريق أقساط مريحة ، و بذلك استغنى أصحاب الدخل المحدود عن القروض الربوية من البنوك ، لأنهم وجدوا بديلاً يرفع عنهم الحرج بالتعامل المحرّم بالربا ، و هذه هي الحيلة من فقه المخالص التي خلصتهم من إثم التعامل بالربا ، عن طريق إنشاء هذا العقد المستحدث في هذا الزمان الذي يتم التعامل به عن طريق البنوك أو المصارف الإسلامية ، و لا زال المسلمون يعانون من هذا الحرج في البلاد التي لم تنتشر فيها المصارف الإسلامية كالبلاد الأوربية .
البديل الثاني : عقد التورّق ( و يسميه الشافعية بالزرنقة ) :
- و هو عقدٌ من عقود التمويل المعاصر يعدُّ بديلاً عن نوعين من أنواع المعاملات المالية المحرمة ( النوع الأول بيع العينة ، و الثاني الاقتراض من البنوك بفوائد ربوية ) ، و سمي تورقاً ، لأن المقصود منه الحصول على الأوراق المالية بطريق شرعية .
- أما بيع العينة فهو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه و سلم فقال: ( ِإذا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ) . أخرجه أبو داود و الإمام أحمد في المسند ، [11]و قد حمله جمهور الفقهاء على التحريم ، و صورة بيع العينة : أن يبيع السّلعةَ بألفٍ و خمسمائة دينار مؤجلاً – مثلاً – ، ثم يشتريها البائع نفسه من المشتري بألفٍ نقداً ، و يبقى الثمن الأول في ذمته ، و يكون قد توصل بهذا العقد الصوري إلى بيع ألفٍ و خمسمائة ، بألفٍ ، و هذا ربا محرم ، و إنما حُرّمت العينة سداً لذريعة الفساد .
- و الفرق بينه و بين بيع التورق الذي نحن بصدد الكلام عنه هو دخول وسيط على العقد ، و هي الحيلة الشرعية لتصحيح العقد ، و تحويل الكسب الناتج عنه من كسبٍ محرّمٍ إلى كسبٍ حلال ، و معنى ذلك : أن يشتري السلعة بألفٍ و خمسمائة مؤجلة ثم يبيعها لشخص أخر غير البائع الأول نقداً بألف ، فيقبض المشتري الأول الألف نقداً ، و تبقى الألف و الخمسمائة في ذمته يوفيها للبائع الأول بالتقسيط بحسب الاتفاق ، و يكون بذلك قد حصل على النقود أو الأوراق النقدية ، لذلك سمي تورقاً .
- و الحقيقة أن هذا العقد كان موجوداً قديماً و اختلف الفقهاء في جوازه :
فذهب جمهور الفقهاء من الشافعية و الحنابلة ، و القاضي أبو يوسف ( من الحنفية ) ، إلى جوازه إذا كان محتاجاً إلى النقود ، و وجه جوازه أنه لم تتحقق فيه صورة بيع العينة المنهي عنها .
و ذهب الإمام مالك – رحمه الله – ، و محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية إلى القول بكراهته – و هو القول المعتمد عند الحنفية -، و إذا أطلقت الكراهة عند الحنفية فالمراد بها كراهة التحريم ( و هي ما ثبت النهي عنه بدليل ظني لأن حمل الحديث على تحريم التورق أمر ظني محتمل فلا يدل على أكثر من الكراهة ) .
و ذهب إمام الهُدى : عمر بن عبد العزيز بن مروان ، و فقهاء المالكية إلى تحريمه ، و هو ما رجحه شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، الحراني ، الدمشقي ، الحنبلي – رحمه الله – .
و قد صدرت الفتوى بجوازه بقرارٍ من مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورته / 15 / في مكة المكرمة .
- لكن شاع استخدام هذا العقد بوساطة البنوك الإسلامية التي أصبحت تقوم بتنظيم هذه العقود لعملائها كوسيط في البيع ، بحيث تدفع ثمن السلعة للعميل ثم تقوم باستيفاء هذا الثمن من العميل الأول على أقساط ، و تبيع السلعة للمشتري الثاني ، و تقبض الثمن ، و تعطيه للمشتري الأول ، و يكون الفارق بين الثمنين ربحاً للبنك ، و يسمى هذا العقد بـ ( التورق المنظّم ، أو التورق المصرفي ) و قد وقع خلافٌ في جوازهِ بين الفقهاء أو المشـــايخ في هذا العصر :
فذهب جماعة من المشايخ إلى جوازهِ منهم الشيخ : عبد الله بن منيع ، و الشيخ محمد تقي العثمان ، و غيرهم لانتفاء الفارق بينه و بين التورق الفردي أو التورق العادي الذي تكلم الفقهاء عنه قديماً .
و ذهب جماعة أخرى من المشايخ إلى تحريم التورق المنظم ، و ذكروا فروقاً بينه و بين التورق العادي لامجال لتفصيلها ، منها دخول البنك كوسيط في المعاملة . [12]
و هذا الاختلاف بين المشايخ أدى إلى اضطرابٍ في الفتوى في هذا العصر ، و قد ذكر الدكتور رفيق المصري- رحمه الله – في كتابه التمويل الإسلامي – أنَّ أحد العلماء كان يفتي بتحريم التورّق قبل أن يصير عضواً في الهيئات الشرعية – لأحد البنوك – و بعد أن صار عضواً في الهيئات الشرعية أفتى بجواز التورق المصرفي ( أو المنظم ) !!!! . [13]
أقول : و على الرّغم من صدور الفتاوى بتحريم التورّق المصرفي و الخلاف الذي حصل فيه فإن ذلك لم يؤثر على انتشار التورق بين الناس فقد استغلت البنوك الإسلامية الفتاوى التي صدرت في إباحة التورق عموماً و التورق المصرفي خصوصاً في إنتاج صيغٍ للتورق المنظم ، مما أدى إلى انتشاره في العالم الإسلامي انتشاراً كبيراً ، فقد ذكر بعض الباحثين أن نسبة القروض الربوية انخفض انخفاضاً كبيراً و استحوذ بيع التورق على 70% منها ، أي حلّ محلها بهذه النسبة ، و ذكر باحث آخر أن نسبة التورق بالنسبة لعمليات التمويل الأخرى بلغت 90 % . و هذا يدل على الانتشار الواسع للتعامل بالتورق في المجتمع الاسلامي .، و يدل أيضاً أن التورق يعدُّ بديلاً فعالاً للقروض الربوية إذ هو وسيلة سهلة و متيسرة للحصول على النقود و الأموال التي قد يحتاج إليها الإنسان لشراء سلعة ما ، و إقامة مشروع اقتصادي ، لذلك صار هذا العقد أو هذا البديل من أهم وسائل التمويل الاقتصادي .
البديل الثالث : البديل الشرعي عن التأمين التجاري هو التأمين التعاوني :
من النوازل التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في العصور المتأخرة مسألة التأمين التجاري ، كالتأمين على المركبات ، و التأمين على السفن ، و التأمين على الحياة ، و التأمين ضد الحريق ……..
و يسمى التأمين التجاري بالتأمين بقسطٍ ثابت .
و قد عرف المعاصرون التأمين التجاري بأنه : عقدٌ يلتزم فيه أحد الطرفين – و هو المؤمِّن – قِبَلَ الطرف الآخر ، و هو المستأمن ، أداءَ ما يُّتَفقُ عليه عند تحقق شرطٍ ، أو حلولِ أجلٍ ، نظير مقابلٍ نقديٍّ معلومٍ .
و عرّفه الأستاذ سعدي أبو جيب بنص المادة / 747 / من القانون المدني المصري – مع شيءٍ من التصرّف – بأنّه : (عقدٌ يلتزم به المومِّنُ بمقتضاه أن يؤدي للمؤمَّنِ له ، أو إلى المستفيد منه الذي اشتُرط لصالحهِ ، مبلغاً من المال ، أو إيراداً مرتباً ، أو أي عوضٍ ماليٍ آخرَ في حالِ وقوعِ الحادث ، أو تحققِ الخطرِ المُبيّنِ بالعقد ، و ذلك نظير قسطٍ ، أو أي دفعةٍ ماليةٍ يؤديها المؤمَّنِ له للمؤمِّنِ ، و يتحمّل بمقتضاها المؤِّمنُ تبعةَ مجموعةٍ من المخاطرِ بإجراء مقاصّةٍ فيهما – و المقاصّة جعل مبلغ الضمان مقابل القسط الثابت الذي يدفعه المؤمَّنُ له – وفقاً لقوانين الإحصاء -و هي قوانين رياضية – ) .
ونصُّ المادة / 747 / من القانون المدني المصري : ( التأمين عقدٌ يلتزم المؤمِّنُ بمقتضاه أن يؤدي للمؤمَّنِ له ، أو إلى المستفيد الذي اشتُرط الـتأمين لصالحهِ ، مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً أو أي عوضٍ مالي آخر في حال وقوع الحادث أو تحققِ الخطر المُبيّن بالعقد ، و ذلك في نظير قسطٍ أو أيةِ دفعةٍ ماليةٍ أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّنِ ) .
و بهذا التعريف أخذ القانون المدني الكويتي في المادة / 773 / ، و القانون المدني السوري في المادة / 713 / ، و القانون المدني الليبي في المادة / 947 / ، و التقنين العراقي في المادة / 983 / .
- و مثاله السائد في هذا الزمان : الـتأمين على المركبات ، بحيث يدفع المؤمن صاحب المركبة ( السيارة ) مبلغاً معيناً ثابتاً في السنة هو قسط التأمين ، و يعقد مع شركة التأمين عقداً رضائياً ، مع وجودِ معنى عقود الإذعان في بعض الشروط التي تفرضها الشركة على المؤمن من غير أن يحق له الاعتراض أو الرفض ، كتحديد تعويض معينٍ على كل حادث ، و تحديد شروط معينة في السائق ….
- و يصبح عقد التأمين سارياً بعد /24 / ساعة من إبرامه ، أو بمجرد نزوله على نظام المرور .
- في حال حدوث ضررٍ ناشىءٍ عن حادث يتم تحديد مقدار ضمان الضّرر عن طريق ورشات الصيانة ، أو عن طريق مؤسسات رسمية معتمدة من قبل المرور ، ثم يتم صرف المبلغ المقرر خلال فترة زمنية محددة ، حيث ينزل المبلغ في حساب العميل .
- و لابد من التنبيه أن شركات التأمين هي شركات تجارية ربحية ( يُقصد منها الربح ) ، قد تكون مملوكة للدولة ، و قد تكون شركات خاصة مرخّصة رسمياً من الدولة .
و التأمين التجاري عقد رضائي مستمر احتمالي ، ( فيه معنى الغرر) ، لذلك صنفه المقنن المصري مع عقود المقامرة و الرهان . [14]
و معنى كونه عقداً احتمالياً أو عقد غرر ، من الناحية الشرعية و القانونية ، هي الجهالة ، و عدم وجود التوازن بين العوضين ، عند إبرام العقد ، فالمؤمن له، لا يدري كم سيأخذ عند حدوث حادث ، و الشركة المؤمنّة كذلك لا تدري كم ستدفع ، و من المعلوم فقهاً أنَّ أي عقدٍ يوجد فيه مثل هذا الغرر ، أو هذه الجهالة الفاحشة فإنه يعدّ عقداً فاسداً ، و الكسب الناشئ عنه كسبٌ حرام .
و قد ورد تحريم الغرر بجميع أشكاله ، كما في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : ( نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ) . أخرجه الإمام أحمد في المسند ،[15] و رواه مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – . [16]
و الغرر يطلق بمعنى الجهالة ، و بمعنى ما يقدر البائع على تسليمه ، و ما لا يوجد فيه توازن بين العوضين …
و لذلك كان تحريم التأمين و كون الكسب الناشئ عنه هو منشأ الحرج في تعامل المسلم مع هذا العقد ، و بالطبع هذا لا يشكل حرجاً من الناحية القانونية لعدم وجود فكرة الحلال و الحرام في القانون ، و سبب الخلاف هو الخلاف في المصدر :
- فالمشرَع للأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله سبحانه و تعالى ، و المبلّغ عنه هو رسول الله صلى الله عليه و سلم .
- و اما القانون ، فهو قانون وضعي من وضع البشر ، تضعه السلطة التشريعية كالبرلمانات ، و مجالس الشعب ، و مجالس الشيوخ ….. .
- لذلك وجدت فكرة الحلال و الحرام في أحكام الشريعة و لم توجد في الفقه القانوني .
- و هذا يقودنا للكلام عن حكم التأمين التجاري في أحكام الشريعة الإسلامية ، و الحقيقة أنّ علماء الشريعة و فقهاءها المعاصرين اختلفوا في حكم التأمين التجاري على قولين رئيسين :
القول الأول : أنّه عقدٌ فاسدٌ محرّم ، و به أفتى الغالبية العظمى من مشايخ العصر .
و أول من أفتى بتحريم التأمين التجاري ، هو العلامة محمد أمين بن عابدين ، خاتمة المحققين من علماء الحنفية ، المتوفى سنة / 1252 هـ / ، في حاشيته الشهيرة المسماة : ( رد المحتار على الدر المختار على تنوير الأبصار ) حيث تكلم عن مسألة السّوكرة على السفن التجارية ، و أفتى بالمنع ، و تحريم أخذ بدل السفينة أو البضاعة الهالكة أو التالفة ، و عدَّ ذلك من باب لزوم ما لا يلزم ، أي الإلزام بتعويض ما لا يلزم ، و لا يجب شرعاً . [17] .
ثم تتالت الفتاوى من مشايخ العصر على تحريم التأمين التجاري ، و صدرت
الفتوى عن المجامع الفقهية ، و الهيئات الشرعية بتحريمه ، و عليه نصَّت قرارات مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة في / 10 / شعبان لعام / 1398 هـ / ، و كذا هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورتها العاشرة المنعقدة في مدينة الرياض بتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ رقم / 55 / فقد نصوا على تحريم جميع أنواع التأمين التجاري .
و لم يستثن المشايخ إلا بعض صور التأمين الداخلة في معنى التأمين التعاوني كالتأمين على المرتبات و المعاشات ، و التأمين الطبي ، و نحو ذلك مما يُقصد به التعاون على البرِّ و التقوى ، و لا يُقصد به التجارة و الربح .
القول الثاني : جواز التأمين التجاري ، و إباحته :
و قد أفتى بهذا من مشايخ مصر الشيخ علي الخفيف ، و من مشايخ الشام الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء ، و من مشايخ الخليج الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ، و الشيخ عبد الله بن منيع ، و قد ذكر الشيخ الزرقاء قوله هذا في كتابه الفتاوى ، و في كتابه : ( نظام التأمين ، حقيقته ، و الرأي الشرعي فيه ) .
و قد خرّج الشيخ الزرقاء قوله بالإباحةِ ، على مجموعة من المسائل ، في الفقه الحنفي ، أهمها مسألة ضمان أمن الطريق ، فلو قال شخصٌ لآخرَ اسلك هذا الطريق فإنه آمن ، فسلك الطريق ، فإن أصابه شيءٌ من الضّررِ فإنَّ الشخص الذي أخبره لا يضمن لأنه ليس عقد معاوضة ، و إن أخذ المال فإنه يضمن لأنه صار عقد معاوضة ، و عقد التأمين عقد معاوضة فشركة التأمين تضمن الضّرر الداخل في بنود العقد ، مقابل القسط الثابت الذي يدفعه المؤمِن .
و هناك مســـائل أخرى خرّج عليها الشيخ الزرقاء، و أقيسة ،لا مجال لسردها في هذا المقام .
- و على كلِّ حال لا حرج في وجود الخلاف الفقهي ، لأنه اختلاف تنوع و فيه توسعة على المسلمين ، و قد ورد في الحديث الموقوف على عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يرويه عن النبي – صلى الله عليه و سلم – : ( اختلاف أمتي رحمة ) ، و لكن الحرّج في أن تقوم دولة من الدول أو حكومة من الحكومات بإلزام الناس بنوع من أنواع التأمين التجاري ، كما هو الحال في هذا الزمان حيث ألزمت الحكومات شعوبها على التأمين على المركبات .
- أقول في هذه الحالة يمكن رفع الحرج ، و الحيلة الشرعية هنا تطبيق قاعدة : ( حكم الحاكم يرفع الخلاف ) ، فحيث كانت المسألة خلافية ، ثم ألزم الإمام الناس بأحد القولين فقد ارتفع الخلاف ، و ارتفع الحرج ، و عادة الحكام أنهم لا يفعلون ذلك إلا إذا وجدوا مصلحة تقتضي ترجيح أحد القوليين الفقهيين ، فإذا فعل الحاكم ذلك قلنا : سمعنا و أطعنا ، و لا حرج في ذلك ، و لله الحمد .
- و إن لم يلزم الحاكم الناس بالتأمين التجاري ، فالحيلة الشرعية ، التي ترفع حرج التعامل المحرّم هو البديل الشرعي أقصد : اللجوء للتأمين التعاوني ، و هو نوع من أنواع التأمين نشأ بناءً على قاعدة: التعاون على البر و التقوى ، أو التكافل في تحمل تبعات الحوادث و المصائب التي قد تصيب بعض الناس ، لذلك يسمى التأمين التعاوني بالتأمين التكافلي .
- و قدد تعددت التعريفات لهذا النوع من أنواع التأمين ، ولعل أقربها : ( هو أن تتعاون مجموعة من الناس بالتبرع بدفعِ مبلغٍ إلى صندوقٍ خاص بهم لتعويض خسائر الخطر الذي يتعرّض له أحد أفراد هذه المجموعة ، مثل أن يقوم أهل السوق بإنشاء صندوق تعاوني من أموالهم بحيث يقدّم كلٌّ منهم حصته ( قسط التأمين ) ، و يُرصد المبلغ في صندوق للطوارئ بحيث يُؤدى منه تعويضٌ لأيّ مشترك منهم عندما يقع الخطر الذي أُسسَ الصندوق لدفعهِ ، كخطر الغرق أو الاحتراق و نحوهما ) .
- و قد نشأت شركات في هذا العصر لتدير هذا التأمين و تنظمه ، تسمى الآن شركات التأمين الإسلامي ، لأنها تعد التأمين الذي يُقصد به التعاون على الخير و البر إسلامياً .
- و قد تقوم شركات التأمين بتشغيل الأموال المرصودة للتأمين ، إذا لم تستخدم في الضمان أو تعويض الخسائر ، ثم توزع العوائد أو الأرباح على المساهمين كلٌّ بحسب المبلغ الذي رصده ، مع الأعضاء المشاركين في الأقساط عندما رصدوا هذه الأموال لم يكن قصدهم الربح ، بل كان قصدهم التعاون و التكافل .
هذه أهم البدائل التي أحببت أن أعرضها في هذه المحاضر بصورة مختصرة ، و هناك بدائل شرعية كثيرة تهدف لرفع الحرج عن الناس بحيث يستبدلوا المعاملات المحرمة و الكسب الخبيث ، بالمعاملات المباحة ، و الكسب الحلال ، من هذه البدائل بدلائل استخدام السندات المحرمة ، و الاقتراض عن طريق بطاقات الائتمان ، و حسم الكمبيالات ….. و غيرها ، وهذه لا مجال لذكرها في هذه المحاضرة بل تحتاج لمحاضرة أخرى ، و فيما ذكرته من البدائل كفاية . و الحمد لله ربّ العالمين ، و أشكركم لحسن استماعكم ، و إلى لقاء في محاضرات جديدة ، و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم .
انتهى
كتبه راجي عفو ربه : باسل بن محمود بن عبد الله الحافي
- مفردات القرآن للراغب الأصفهاني / 111 ، لسان العرب لابن منظور 11 / 48 . ↑
- تفسير النسفي 54 – 55 . ↑
- الموافقات ، للشاطبي 4 / 436 . ↑
- الأشباه و النظائر لابن نجيم مع غمز عيون البصائر للحموي ، 3 / 294. ↑
- المغني لابن قدامة : 4 / 133 – 134 . ↑
- البخاري ، باب الطيب للجمعة ، 5 / 341 ، رقم ( 2134 ) ، سنن أبي داود ، باب في الصرف ، 3 / 254 ، رقم ( 3350 ) . ↑
- البخاري باب إذا باع الوكيل بيعاً ، 2 / 813 ، رقم ( 2188 ) ، و مسلم ، باب بيع الطعام مثلاً بمثل ، 5 / 48 ، رقم ( 4167 ) . ↑
- البخاري ، 5 / 436 ، مسلم ، 5 / 47 . ↑
- https://www.hindawi.org/books/39797960/ ↑
- البيان و التحصيل ، لابن رشد الجد ، 9 / 510 – 511 . ↑
- مسند الإمام أحمد ، 9 / 396 ، رقم ( 5562 ) ، سنن أبي داود ، باب النهي عن العينة ، 3 / 291 ، رقم ( 3464 ) . ↑
- التورق المصرفي ، رياض راشد آل رشود ، / 129 / ، طبعة وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ، دولة قطر . ↑
- التمويل الإسلامي ، د رفيق يونس المصري ، / 106 / ، طبعة دار القلم . ↑
- يُنظر : الوسيط في شرح القانون المدني المصري الجديد ، أ . د . عبد الرزاق السنهوري ، 7 / 1085. ↑
- مسند الإمام أحمد ، 2 / 252 ، رقم ( 937 ) . ↑
- مسلم ، باب بطلان بيع الحصاة ، 5 / 3 ، رقم ( 3881 ) . ↑
- يُنظر حاشية ابن عابدين ، 16 / 283 ، نسخة المكتبة الشاملة 3 . ↑

