التفكير الحكمة في معالجة مشكلة الفقر

بسم الله الرحمن الرحيمالتفكير الحكمة في معالجة مشكلة الفقرالباحث: عبد الله نوريباحث في تخصص مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ…

بسم الله الرحمن الرحيم
التفكير الحكمة في معالجة مشكلة الفقر
الباحث: عبد الله نوري
باحث في تخصص مقاصد الشريعة الإسلامية، وأستاذ مشارك بكلية العلوم الإسلامية بجامعة وهران 1 أحمد بن بلة، الجزائر

تمهيد:
عرفت البشرية مشكلة الفقر منذ القدم وحاولت التخفيف من آلام الفقراء ورفع المعاناة عنهم، أحيانا عن طريق التحليق في سماء الفلسفة والنظريات لا في الواقع المعيش، ولعل المدينة الفاضلة لأفلاطون أشهر ما نقل لنا في ذلك، وأحيانا أخرى بمعالجة الانحرافات بانحرافات أشد منها كما في حركة المزدكية المتطرفة التي دعت إلى شيوع الأموال والنساء بين الناس، وفي العصر الحديث تمثل ظاهرة الفقر المشكل الأكبر أمام العالم بأسره بِدوّله ومنظماته، وقد فشلت الرأسمالية في حل مشكلة الفقر كما فشلت ضرتها الشيوعية في ذلك. فما السبيل إلى الحد من انتشار ظاهرة الفقر؟
المبحث الأول: الفقر؛ المفهوم والمتعلقات
المطلب الأول: المفهوم
الفقر لغة: من فَقَرَ ضد استغنى، فالفقر ضد الغنى؛ وذلك بأن يصبح الإنسان محتاجا أو ليس له ما يكفيه.
الفقر اصطلاحا: الفقر بالمفهوم الضيق “هو عدم القدرة على تحقيق الحد الدنى من مستوى المعيشة”(تقرير عن التنمية البشرية في العالم 1990، ص88)، أو “هو عدم ملك الإنسان لما يكفيه من مال مع عدم القدرة على الكسب والعمل”. (عبد السلام حمدان وآخرين, علاج مشكلة الفقر-دراسة قرآنية موضوعية-)
وهناك من توسع فأضاف البعد النفسي إلى جانب البعد المادي، حيث اعتبر أصحاب هذا الاتجاه الأمن والكرامة والاستقلالية.. كلها داخلة في مفهوم الفقر فصلا عن نقص الموارد أو الممتلكات، وعليه فالفقراء خياراتهم محدودة للغاية فهم لا يستطيعون إسماع أصواتهم للغير أو التأثير فيما يجري حولهم. (تقرير عن التنمية البشرية في العالم 1998، ص28)
المطلب الثاني: الأنواع
الفقر باعتبار طبيعته: إما مادي (مال، ممتلكات) أو معنوي (الإيمان، الأخلاق، الكرامة، والحرية..).
الفقر باعتبار العرف: إما مطلق (الفقر المدقع)، وإما نسبي (بحسب المستوى المعيشي العام للمجمتع).
الفقر باعتبار الفردية والجماعية: إما فقر الدولة، او فقر الأفراد.
الفقر باعتبار أجله: إما مؤقت (قصير الأجل)، وإما دائم (طويل الأجل).
المطلب الثالث: المظاهر
نجملها فيما يأتي: البطالة، الجهل والأمّيّة، ارتفاع معدل وفيات الأطفال والرضع، عدم الوصول الملائم للموارد، سوء التغذية، انتشار الأمراض والأوبئة، البناء العشوائي والاكتظاظ، تلوث المياه وتراكم النفايات في كل مكان، غياب الكهرباء أو انقطاعها المتكرر والطويل الأمد، الحرمان المادي والمعنوي، تزايد الجريمة وأعمال النهب…
المطلب الرابع: الأسباب
نجمعها على سبيل الإجمال هنا: ارتفاع نسبي في عدد أفراد الأسرة مع دخل محدود وقلة العائلين، برامج التصحيح الهيكلي أو ما يسمى ببرامج التعديل، الحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، سوء توزيع الدخل والثروات، سوء إدارة الموارد الاقتصادية، الضغط السكاني، كثرة الكوارث الطبيعية، سياسة التهميش، تدني مستوى التعليم (هناك علاقة جدلية بين الجوع والأمية وبالتالي التخلف الاقتصادي)، وهناك من يجعل البطالة سببا للفقر، والفساد والبيروقراطية..
المبحث الثاني: الحد من مشكلة الفقر من خلال التفكير الحكمة
المطلب الأول: التفكير الحكمة
يُعرّف (Henry Minzberg) التفكير الحكمة (الاستراتيجي) على أنه طريق خاص للتفكير، يهتم بمعالجة البصيرة، ينجم عنه منظور متكامل للمنظمة، من خلال عملية تركيبية ناجمة عن حسن توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الاستراتيجية. فيما تعرفه الباحثة (Lihedtka) بأنه التفكير ذو السمة الشمولية بمحتوى وخصائص استراتيجية.
بينما يرى آخرون بأنه كمصطلح لم يحسم بعد، وأنه منهج وصفي وليس نماذج علمية رياضية قابلة للتطبيق في المؤسسات مثل نماذج التخطيط الاستراتيجي.
المطلب الثاني: خصائصه
للتفكير الحكمة على سبيل الإجمال ست خصائص:
أولا: تفكير شمولي، ينظر من زوايا مختلفة (360 درجة).
ثانيا: الترابط؛ يربط المور ببعضها ويبحث عن العلاقة فيما بينها ويحاول تحليلها وتفسيرها.
ثالثا: زماني؛ ينطلق من الماضي ليفهم الحاضر ويتنبأ بالمستقبل.
رابعا: جذري؛ فلا يقع في فخ الأعراض ولا الأسباب بل يتتبع المشكلة ليحلها من جذورها.
خامسا: إبداعي؛ فهو تفكير خارج الصندوق.
سادسا: أثري؛ لا يكتفي بالنتائج ولو كانت مبهرة بل ينظر في الآثار الارتدادية للحل كذلك.
المطلب الثالث: تنزيله على ظاهرة الفقر
ظاهرة الفقر مشكلة معقدة ذات أبعاد اقتصادية، سياسية، اجتماعية، ثقافية، وبيئية..، وعليه فلا بد لها من نظر شمولي يتناول هذه الأبعاد على انفرادها وعند اجتماعها، ليتاح للناظر فيها المعلومات الكاملة للبتّ في المشكلة.
فمن جهة المقاربة الاقتصادية: مشكلة الفقر لها علاقة وطيدة بتوزيع الدخل؛ فمهما عملنا على استراتيجيات التنمية التي تؤدي إلى زيادة الدخل الفردي فلا يمكن أن نحدّ من الفقر إذا ما صاحبها تفاوت وسوء توزيعٍ للدخول، فلا بد من عدالة اجتماعية في توزيع الثروة والدخول لا تخل بالكفاءة الاقتصادية. كما أن التخلف الاقتصادي للدول النامية والسائرة في طريق النمو هو المحدد والسبب المباشر للفقر وانتشاره لما له من أثر جلي على الدخل القومي والدخل الفردي وكذا تأمين الخدمات الأساسية للسكان (التعليم والصحة والأمن…). كما أن هناك حلقة تؤدي بنا إلى الدور والتسلسل للفقر؛ انخفاض مستوى الدخل يلزم عنه انخفاض في مستوى المعيشة، وهذا يلزم عنه انخفاض مستوى الصحة فنقع مباشرة في انخفاض مستوى الإنتاج وبالتالي انخفاض مستوى الدخل وهكذا.
ومن جهة المقاربة السياسية: معظم الساسة في البلاد العربية هم سبب انتشار ظاهرة الفقر، من خلال امتلاك قلة من أفراد المجتمع الثروة والسلطة، والآخرون ليس لهم من الأمر شيء. وكذلك عدم استغلال الموارد الطبيعية المعلومة منها والمجهولة مثل: (البترول، الزراعة، الأنهار، الشمس، والرياح..). كما نجد لهم انفاق ضخم على المؤسسة العسكرية وشراء الأسلحة بتكاليف باهضة لو صرفت في التنمية لأعطت نتائج مرضية في محاربة الفقر. وفي هذه المقاربة لا بد أن نشير إلى أن العولمة التي صحبتها التكنولوجيا والديمقراطية لم تحقق نجاحا اقتصاديا في البلاد العربية -كما يفترض به أن يكون- وإنما زاد في تعميق مشكلة الفقر، لأننا لم نقلد من الديمقراطية طوعا أو كرها إلا وجها أوجهها الاقتصادية المتمثل في حرية السوق المطلقة، أما الديمقراطية فمضطهدة، أو شكلية في أحسن الأحوال، وهذا من أبرز تناقضات الاقتصاد المعولم.
أما من جهة المقاربة الاجتماعية: فمعظم النظريات الاجتماعية تربط الفقر بنسبة تزايد النسل، فهذا الأخير يسبب في نظرهم أزمة غذاء، وأزمة إسكان، وأزمة تعليم… ويجعل محاولات التنمية الاقتصادية تصب في وعاء لا قاع له. وهذا الرأي هو الذي تدعمه الدول المتقدمة، والبنك الدولي.
ونسي هؤلاء بأن كل طفل يولد ليس فَماً يأكل فحسب، بل كذلك يداً تعمل وعقلا يفكر ويبدع، فكما أن زيادة السكان زيادة في الاستهلاك، ففيها كذلك زيادة في الإنتاج. فيجب أن نشتغل على التنمية البشرية ونراهن على الإنسان، لا على تحديد النسل.
ونجد من جهة المقاربة الثقافية: أن الفقر في حقيقة الأمر وجه آخر لصور التمييز الاجتماعي واللامساواة وانعدم العدالة، وهو ليس ظاهرة متأصلة في البشر، تظهر بفعل عوامل بيولوجية يتوارثها الناس والمجتمعات، ولكنها نتائج نمطية تاريخية محددة للعلاقات التي تربط البشر ببعضهم. لذا ذهب مفكرو علم الاجتماع والأنتربولوجيا إلى أن السبب الرئيس في استمرار الفقر يعود إلى تلك البنية الثقافية التي ينشأ فيها الفقير على أنماط معينة من القيم والمعتقدات.. وهذا ما يسميه لويس أوسكار بثقافة الفقر. وانتقد هذا الاتجاه الباحث الأنتربولوجي توماس جلادوين حيث يرى أن الفقراء لا يختلفون في أهدافهم وقيمهم واتجاهاتهم عن باقي طبقات المجتمع بل كل ما في الأمر أنهم يشعرون بإحباط يمنعهم من تحقيق أهدافهم فيميلون إلى تحقيق أهداف بديلة تختلف عن الثقافة المهيمنة على المجتمع.
وأخلص هنا إلى أن الفقر والبطالة والأمية والتخلف الاقتصادي وارتفاع معدل الجريمة في المجتمع وجور الحكام واستئثارهم بالثروة والسلطة.. كلها مشاكل مترابطة يسوق بعضها إلى بعض، تصلح أن يكون بعضها أسبابا ونتائج في نفس الوقت لبعضها، ولا يمكن القضاء على الفقر إلا بمعالجة المشاكل الأخرى التي يكون الفقر نتيجة لها أو هو أحد أسبابها.
ولقد جربت البلاد الإسلامية الشيوعية والرأسمالية ردحا من الزمن غير قصير، وتجرّعت مرارة وغصص تطبيقها على شعوبها وفشلت فشلا ذريعا، ولم يبق أمامها بل أمام البشرية جمعاء ملاذا غير دين الإسلام عقيدة وشريعة.
التاريخ يخبرنا عن زمن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أن الناس قد أنعم الله عليهم برغد العيش، وفاض المال حتى لم يجدوا من يحتاجه، فقد روى البيهقي في (الدلائل)، عن عمر بن أسيد قال: إنما وَلِيَ عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا، لا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: “اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيه فلا يجده، قد أغنى عمر الناس”.
والحل في نظري: أن يعطى الإنفاق على التربية والتعليم والجامعة بكل مختبراتها ومدرجاتها أولوية، وإيجاد منظومة تربوية تعليمية إسلامية غير مستوردة وإنما تكون نابعة من أصول ديننا تراعي أعرافنا ومقتضى أحوالنا، مع إعادة النظر في منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في جميع التخصصات، ونهتم بإنشاء جيل إسلامي قيادي مؤهل للقيام بالدور الريادي الذي ينتظره، على أن تتكاتف الجهود (الأسرة والمجتمع والمدرسة والمسجد والجامعة)، والمراهنة على هذا الجيل. أما البحث عن العلاج لكل ظاهرة على حدة فإنه لن يحل المشكلة ولكن قد يخفف من غلوائها كما قد تكون له آثارا ارتدادية على ظواهر أخرى.
المراجع:
لسان العرب لابن منظور
مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام للعلامة يوسف القرضاوي.
تحليل وقياس الفقر في الجزائر دراسة تطبيقية في ولاية سطيف مذكرة ماجستير لحصروري نادية.
الفقر والأزمة الاقتصادية لإسماعيل سراج الدين ومحسن يوسف.
انفجار سكاني أم أزمة تنمية لإبراهيم العيسوي.
الفقر مسبباته وسبل الحد منه… حالة الجزائر، مقال لفريد كورش.
حقوق الإنسان والصحة واستراتيجيات الحد من الفقر، منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية.
الخلاص من الفقر، مؤتمر العمل الدولي 2003، جنيف.
استراتيجيات وسياسات مكافحة الفقر، المعهد العربي للتخطيط.
التفكير الاستراتيجي والخروج من المأزق الراهن، د. جاسم سلطان.
محاضرات د. محمد إقبال الخضر (مدخل في الاقتصاد الإسلامي والنظريات الاقتصادية).