المذاهب الفقهية هي مدارس عريقة لا آراء أشخاص
بسم الله الرحمن الرحيم المذاهب الفقهية هي مدارس عريقة لا آراء أشخاص عبدالرحمن نورجان ([1]) الحمد لله الذي…
بسم الله الرحمن الرحيم
المذاهب الفقهية هي مدارس عريقة لا آراء أشخاص
عبدالرحمن نورجان ([1])
الحمد لله الذي جعل التفقّه في الدين من علامات إرادة الله الخير بعبده فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-:(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([2]) بل جاء عن الفاروق عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال:( تفقهوا قبل أن تُسَوَّدُوا ) وعلق عليه الإمام البخاري بقوله:(وبعد أن تسودوا؛ لأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تفقهوا على كبر)([3]) وبعد:
أيها القارئ الكريم, من المعلوم بداهة أن الفقه لغة هو الفهم, فكيف نعرف منزلة الشخص؟ دون معرفة فقهه, ومقدار فهمه, وأما تعريف الفقه من حيث الاصطلاح, فقد كان قبل استقرار العلوم الإسلامية يشمل أحكام العقائد وأحكام الأعمال الظاهرة والأخلاق, وأما بعد استقرار العلوم فهو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية, وبالتالي فالفقه يختص بالحكم على الأعمال الظاهرة للمكلف والفقه هو: الميزان الذي يوزن به أعمال المكلف ليُعرف الصحيح من الفاسد, والمقبول من المردود.
ومما هو معلوم ضرورة عند أهل الإسلام كافة أن الدين محفوظ, ومنقول إلينا قرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, حيث نُقل في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الصحابة -رضي الله عنهم-, ثم في عهد الصحابة الكرام إلى التابعين, ثم في عهد التابعين إلى تابع التابعين وهكذا إلى أن استقرت المذاهب الفقهية الأربعة, وإلى عصرنا هذا.
وقد كان الدين وأحكامه يُنقل عبر السماع والحفظ في الأصل, كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-:(تسمعون ويُسمع منكم ويُسمع ممن سمع منكم)([4]). وكذلك كان القرآن الكريم والحديث النبوي في الأصل مفهوماً عندما يسمعه من ينقله لمن يليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, فإن كان ثمّت إشكال أو عدم وضوح في الفهم, فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستشكلون ويسألون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن ذاك الإشكال فيجيبهم -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في أحاديث عدة, منها حديث( … وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)([5]).
وبما أن الفقه يختص بالحكم على أعمال المكلفين الظاهرة, وهو ركن ركين في أحكام الدين؛ فيكون الفقه من الدين المنقول إلينا قرناً بعد قرن من حيث الأصل, وقد يتغير بعض الأحكام الفقهية تبعاً لاختلاف العلل المنوطة بها, أو الأعراف التي بنيت عليها. ولكن الأصل أن الفقه الموجود في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم المنقول في عصر خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم- ثم المنقول إلى عصر التابعين وتابعيهم لاسيما في كتب الأئمة الأربعة -سواء كانوا هم من دونها أو كان الطلاب هم من دونوا فقههم عنهم-؛ هو نفسه الفقه الموجود والمنصوص عليه في كتب المتأخرين من أرباب تلك المذاهب.
وبناء عليه فالقول بأن المتأخرين من أرباب المذاهب يخالفون المتقدمين في المذاهب الأربعة هو قول غير دقيق.
ومما يؤكد هذا المعنى هو وجود السند المسلسل في فقه كل مذهب من المذاهب الأربعة, ومن أمثلة ما يدل على ذلك أني قبل فترة كنت أقرأ في كتاب حاشية ابن عابدين المسمى: رد المحتار على الدر المختار, فأول ما ابتدأ به صاحب الدر المختار وهو الإمام الحصكفي شارح تنوير الأبصار للإمام التمرتاشي هو ذكر السند المتصل بما في الكتاب من الفقه من الإمام الحصكفي إلى الإمام أبي حنيفة إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا يدل دلالة واضحة على أن الفقه قد نقل إلينا كابراً عن كابر حتى يبلغ السند إلى الشارع([6]).
وبناء عليه فإن مادة الفقه في أصله هو ما جاء في كتاب الله تعالى, وما كان عليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من قول وفعل وتقرير منه بالإضافة إلى بقية الأدلة.
فإذا كان هناك احتمال في فهم كلام الله تعالى, أو مراد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو كان هناك في الظاهر تعارض أو غموض بين آيات الكتاب الحكيم, أو بين بعض أقوال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو أفعاله أو تقرير, فهنا يلجأ العالم إلى طريقة معينة للجمع والتعامل بين تلك الاختلافات.
هذا الجمع بطريقة معينة محددة واضحة هو ما يسمى بـــ(مذهب ذلك العالم) في التعامل مع تلك النصوص, وكذلك هو مذهب لكل من يأتي بعد ذلك العالم ممن هو متبع لذاك الإمام في أصول مذهبه في التعامل مع النصوص
ولا اختلاف بين أهل السنة والجماعة أن المذاهب التي اجتمع فيها الحق أو أغلبه في الشريعة هي المذاهب الأربعة([7]).
وبناء على ما سبق؛ فإن كل مذهب من المذاهب الأربعة هو بمثابة مدرسة عريقة عتيقة وهذه المدارس توالى عليها أئمة العلم وطلبته جيلاً بعد جيل إلى عصرنا الحاضر إلى ما شاء الله عز وجل
وبالتالي فالتصور الصحيح هو: أن مذهب الحنفية هو في ابتداء الأمر كان قولاً لشخص وهو الإمام الأعظم -رحمه الله تعالى- ولكن أصبح رأيُه ومذهبُه آراءَ عشرات الأئمة المجتهدين الذين ارتأوا صحة طريقة الإمام أبي حنيفة في التعامل مع النصوص من الوحيين وغيرها.
وكان مجلس الإمام أبي حنيفة يضم تلاميذه المجتهدين الذين كانوا ربما يناقشون الإمام أبا حنيفة فيما لم يظهر لهم وجه صحة قولِه فيما يقوله, حتى يصلوا جميعاً إلى القول الذي يرونه صحيحاً, وبالتالي يكون رأيُ الإمام أبي حنيفة وما ذهب إليه هو مذهبَ عدد من المجتهدين وهم طلابه, ثم هؤلاء المجتهدون الملتزمون بطريقة أبي حنيفة في التعامل مع تلك النصوص والملتزمون برأي أبي حنيفة أصبح لهم طلاب يصلون إلى المئات, وهكذا في كل جيل من الأجيال يَنقُل السابق ما أخذه عن شيوخه إلى اللاحق لقناعهم بصحة التعامل مع النصوص الشرعية بتلك الطريقة, حتى وصل المذهب إلى الاستقرار ثم وصل إلى عصرنا الحاضر.
ومن العجيب أن تسمع ممن يزعم أنه طالب علم أو يقول أنه عالم ثم يقول بأن مذهب من المذاهب السُّنية السَّنية الأربعة عار عن الدليل في قليل أو كثير من المسائل.
ولازم هذا القول هو اتهام العلماء الذين تولوا قرناً بعد قرن في التزام مذهب من تلك المذاهب الأربعة بأنه فاسق لأن ذلك العالم قد تعبّد الله عزوجل بما ليس عليه دليل وهذا قول على الله بغير علم وبرهان فيكون قائله فاسقاً!
أيها القارئ الكريم هل يسوغ لإنسان عامي أن يقول قولاً وينسبه للشرع دون أن يكون له دليل الله! إن هذا له فسق وحرام.
فإذا كان هذا العامي يتبرأ من مثل هذا, فهل يُظن بعالم من علماء المسلمين وهم سادة الأولياء والصالحين في هذه الأمة بأنهم لا يتورعون عن الفسق من حيث أنهم يقولون في دين الله بغير دليل؟!؟
واتضح من خلال ما سبق أنه لا وجود لمسائل دون أدلة في كتب الفقه في المذاهب الأربعة؛ لأن اللازم باطل فالملزوم باطل.
ويمكن أن يُشكَل بأننا نجد في كتب أهل العلم لاسيما كتب الفقهاء من يقول بأن العالم الفلاني قال كذا وكذا وهذا القول لا دليل عليه!!
فيقال لهم: ما ذكره المستشكِل صحيح من حيث وجود هذا الشيء في كتب أهل العلم لا سيما كتب الفقه المقارن, ولكن لابد أن يُحمل هذا الكلام على وجه صحيح حتى لا نكون كمن صحح كلام عالم مجتهد بأخذه على ظاهره, وفي نفس الوقت أسقط عالماً آخرَ بل اتهمه بالفسق من حيث لا يشعر وهو كونه يقول في دين الله ما ليس عليه دليل!.
فإن قيل: ما الوجه الصحيح الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام العالم الذي يقول في حق عالم آخر بأن قوله ليس عليه دليل؟
فيقال له: أن يَقصد الأولُ بأن قول العالم الثاني ليس عليه دليل أي ليس عليه دليل معتبر عند الأول, لأنه كما هو معلوم بأن الأدلة ليست محصورة في الوحيين بل هناك أدلة غيرهما متفق عليها كالقياس والإجماع وهناك الكثير من الأدلة المختلفة فيها كقول الصحابي وشرع من قبلنا وغيرها الكثير.
بل هناك أكثر من ذلك من حيث أن هناك طرائق مختلفة عند أهل العلم في الاستدلال بالأدلة المتفق عليها بين الجميع, فلو افترضنا وجود آية محكمة فقد يحصل فيها الخلاف في الاستدلال, فمثلاً يقال: أن دلالة العام على أفراده من حيث الظن أو القطع تختلف من مذهب لآخر, وكذلك تخصيص الكتاب بالحديث الأحاد وغيرها من الأمثلة.
وفي نهاية هذا المقال القصير أقول :
المذاهب الأربعة هي مدارس عريقة مضى عليها القرون تلو والقرون, وهي في كل مرحلة من مراحلها منذ بدأت من عصر الظهور وإلى أن انتهت إلى عهد الاستقرار يتولى عليها الأئمة المجتهدون من المنتسبين إليها, ويصححون الخلل إن ظهر بها خلل سواء من ناحية الاعتماد على ثبوت الأدلة, أو من ناحية طرائق الاستدلال بتلك الأدلة, وجميع هؤلاء المجتهدين يريدون أن يقدموا مراد الله -عزوجل- ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- من تلك النصوص حتى يعبد المسلم ربه على بصيرة.
فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكلمه وأوفاه وأجزله, وجعلنا من السائرين على دربهم غير خزايا ولا مفتونين, ومتبعين لا مبتدعين؛ اللهم آمين ..
- )) باحث دكتوراه في جامعة الإمام بقسم الفقه بالرياض, ومهتم بالمجال التعليمي وتطويره, ومدرب معتمد. ↑
- )) ينظر: صحيح البخاري, كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة , باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) يقاتلون وهم أهل العلم(9/ 101). ↑
- )) ينظر: صحيح البخاري, كتاب العلم, باب الاغتباط في العلم والحكمة(1/ 25). ↑
- )) ينظر: سنن أبي داود, كتاب العلم , باب فضل نشر العلم (3/ 322) وهو صحيح. ↑
- )) ينظر: صحيح مسلم, كتاب الزكاة, باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 697). ↑
- )) قال الإمام الحصكفي في الدر المختار:(فإني أرويه –أي كتاب تنوير الأبصار للتمرتاشي- عن شيخنا الشيخ عبد النبي الخليلي، عن المصنف عن ابن نجيم المصري بسنده إلى صاحب المذهب أبي حنيفة – أي باعتبار المسائل التي فيه مع قطع النظر عن صورته المشخصة، أو باعتبار العلم الموجود في المذهب-، بسنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- المصطفى المختار، عن جبريل ، عن الله الواحد القهار، كما هو مبسوط في إجازاتنا بطرق عديدة، عن المشايخ المتبحرين الكبار). ينظر: حاشية ابن عابدين(رد المحتار على الدر المختار)(1/ 19). ↑
- )) قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك, قال في الفروع ابن مفلح:(وفي الإفصاح: أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة وأن الحق لا يخرج عنهم) ينظر: الفروع وتصحيح الفروع (11/ 103), وهناك من نازع في ثبوت الإجماع كشيخ الإسلام وغيره, ولكنه مع هذا لم ينازع في أن أغلب الحق لا يخرج عن المذاهب الأربعة, قال شيخ الإسلام:(وأما قول القائل: لا أتقيد بأحد هؤلاء الأئمة الأربعة. إن أراد أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين فقد أحسن؛ بل هو الصواب من القولين. وإن أراد: أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها فهو مخطئ في الغالب قطعا؛ إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة), ينظر: المستدرك على مجموع الفتاوى(2/ 250) وبناء عليه فلاشك أن الأسلم والأحوط هو عدم الخروج عن المذاهب الأربعة. ↑