المشاركة المتناقصة: حل تمويل إسلامي إبداعي
المشاركة المتناقصة: حل تمويل إسلامي إبداعي بقلم د. علي شيخون مستشار المحاسبة والمالية الإسلامية شهد التمويل الإسلامي، الذي…

المشاركة المتناقصة: حل تمويل إسلامي إبداعي
بقلم د. علي شيخون
مستشار المحاسبة والمالية الإسلامية
شهد التمويل الإسلامي، الذي يمثل نظاماً مالياً متكاملاً يلتزم بأحكام الشريعة في جميع معاملاته، تطوراً كبيراً في العقود الأخيرة، وفي إطار هذا التطور برزت المشاركة المتناقصة كإحدى أهم الصيغ التمويلية المبتكرة، حيث تجمع في إطار متناسق بين المشاركة في الملكية والبيع التدريجي، تتميز هذه الصيغة بقدرتها على تلبية احتياجات التمويل طويل الأجل، الذي يمتد عادة لأكثر من سنة، مع الحفاظ على الضوابط الشرعية.
تقوم المشاركة المتناقصة على علاقة تعاقدية بين طرفين رئيسيين: الممول، وهو الطرف الذي يقدم التمويل ويمتلك حصة أساسية في الأصل، والمتمول الذي يسعى للحصول على التمويل مع التزامه بشراء حصة الممول تدريجياً، يدخل الطرفان في ملكية مشتركة لأصل معين، سواء كان عقاراً أو مشروعاً تجارياً أو صناعياً، بحيث تتحدد حقوق والتزامات كل منهما بشكل واضح منذ البداية.
الأساس الشرعي للمشاركة المتناقصة:
تستند المشاركة المتناقصة في مشروعيتها إلى أصول شرعية متينة تنطلق من نصوص الوحي وتمتد إلى القواعد والضوابط الفقهية، وتتجلى هذه الأصول في عدة مستويات:
يأتي في المستوى الأول الأدلة النصية من القرآن الكريم والسنة النبوية، فقد أسس القرآن الكريم لمشروعية البيع في قوله تعالى “وأحل الله البيع وحرم الربا”، وأكد على أهمية التراضي في المعاملات بقوله “إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم”. وجاءت السنة النبوية لتؤكد هذا الأصل وتفصله، ففي الحديث القدسي “يد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه” إشارة واضحة إلى مشروعية الشراكة وضوابطها.
وفي المستوى الثاني تأتي القواعد الفقهية التي تحكم المعاملات المالية. فقاعدة “الأصل في المعاملات الإباحة” تفتح الباب لقبول هذه الصيغة المستحدثة ما دامت لا تخالف نصاً شرعياً. وتؤسس قاعدة “الغنم بالغرم” لعدالة توزيع المخاطر بين الشركاء، حيث يستحق كل طرف من الربح بقدر ما يتحمل من المخاطر.
أما المستوى الثالث فيتمثل في الضوابط الشرعية التي تحكم تطبيق المشاركة المتناقصة. فيجب استقلال عقد المشاركة عن عقد البيع، مع ضرورة معلومية رأس المال والربح، وأهلية الشركاء للتصرف. كما يجب مراعاة القيمة السوقية عند البيع التدريجي للحصص، وعدم اشتراط البيع في عقد المشاركة ابتداءً.
وتتجلى في المستوى الرابع المقاصد الشرعية التي تحققها هذه الصيغة. فهي تحفظ المال بتنميته بطريق مشروع، وتحقق العدل بين الأطراف من خلال التوزيع العادل للمخاطر والأرباح، وترفع الحرج عن المتعاملين بتمكينهم من تملك الأصول بطريقة ميسرة.
وقد أكدت المجامع الفقهية والهيئات الشرعية المعاصرة مشروعية هذه الصيغة، حيث صدرت قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي والمعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بإجازتها ضمن ضوابط محددة.
آلية التنفيذ والمراحل في المشاركة المتناقصة
تبدأ المشاركة المتناقصة بدراسة تفصيلية للأصل المراد تمويله، حيث يتم تقييمه من قبل خبراء معتمدين لتحديد قيمته السوقية العادلة، يشمل هذا التقييم دراسة الجدوى الاقتصادية التي تتضمن تحليل التدفقات النقدية المتوقعة والعوائد المحتملة، بعد اكتمال التقييم، يقوم الطرفان بتحديد حصصهما في الملكية، مع توثيق ذلك في عقد المشاركة الأساسي الذي يحدد حقوق والتزامات كل طرف.
ثم مرحلة التنظيم والهيكلة، وتتضمن هذه المرحلة وضع الإطار التنظيمي الكامل للمشاركة، يشمل ذلك تصميم هيكل إدارة الأصل وآلية اتخاذ القرارات المشتركة، ووضع نظام متكامل لتوزيع الأرباح والخسائر، كما يتم إعداد جدول زمني تفصيلي لشراء الحصص، مع تحديد آليات تقييم الحصص عند كل عملية بيع، يتضمن هذا الإطار أيضاً نظاماً لإعداد التقارير الدورية وإجراءات متابعة الأداء والصيانة.
ثم مرحلة التشغيل والمتابعة، وتعد هذه المرحلة قلب العملية التشغيلية للمشاركة المتناقصة، تتضمن إدارة العمليات اليومية للأصل وتحصيل الإيرادات وتوزيعها حسب الاتفاق المبرم، يشمل ذلك تنفيذ أعمال الصيانة الدورية والطارئة، مع متابعة مستمرة للمؤشرات المالية والتشغيلية، تتم خلال هذه المرحلة عمليات شراء الحصص وفقاً للجدول المتفق عليه، مع معالجة فورية لأي مشكلات تشغيلية قد تظهر.
ثم مرحلة التخارج التدريجي، وتشكل هذه المرحلة جوهر المشاركة المتناقصة، حيث تتم فيها عملية انتقال الملكية بشكل منظم، يتم إجراء تقييم دوري للحصص المراد بيعها، مع تنفيذ عمليات البيع وفق الجدول الزمني المحدد، تتطلب كل عملية بيع توثيقاً منفصلاً وتحديثاً لسجلات الملكية، مع مراجعة وتعديل اتفاقيات الإدارة والتشغيل حسب تغير نسب الملكية.
وأخيرا مرحلة التسوية والإنهاء وتمثل المرحلة الختامية للمشاركة، حيث يتم التأكد من اكتمال نقل جميع الحصص وتسوية كافة الالتزامات المالية. تشمل هذه المرحلة نقل المسؤوليات الإدارية بشكل كامل للمتمول، مع إعداد التقارير النهائية وتوثيق انتهاء المشاركة بشكل رسمي.
متطلبات نجاح التنفيذ
يعتمد نجاح المشاركة المتناقصة على توفر نظام متابعة مالي وإداري دقيق، وفريق إداري مؤهل، ونظام محاسبي متكامل، كما يتطلب وجود آليات واضحة لحل النزاعات ونظام تقييم دوري للأداء، مع وضع خطط مسبقة لمواجهة المخاطر المحتملة.
تترابط هذه المراحل وتتكامل فيما بينها، حيث يعتمد نجاح كل مرحلة على دقة تنفيذ المراحل السابقة، تتطلب إدارة هذه المراحل مرونة في التعامل مع المستجدات التي قد تطرأ خلال فترة المشاركة، مع الحفاظ على الالتزام بالضوابط الشرعية والقانونية المحددة.
إدارة المخاطر في المشاركة المتناقصة: وتتمثل في مخاطر إئتمانية وتشغيلية وسوقية وقانونية وتنظيمية
المخاطر الائتمانية في المشاركة المتناقصة
تتمثل المخاطر الائتمانية في عدم قدرة المتمول على شراء حصص الممول وفق الجدول المتفق عليه، تتطلب إدارة هذه المخاطر منظومة متكاملة تبدأ بدراسة عميقة للملاءة المالية للمتمول، والتحقق من قدرته على الوفاء بالتزاماته المستقبلية، يتضمن ذلك تحليل التدفقات النقدية المتوقعة، ودراسة مصادر الدخل، ومراجعة السجل الائتماني، تتضمن إجراءات إدارة هذه المخاطر وضع ضمانات مناسبة، وخطط بديلة للسداد، مع نظام إنذار مبكر يكشف عن أي مؤشرات للتعثر المحتمل.
المخاطر التشغيلية
ترتبط المخاطر التشغيلية بإدارة الأصل محل المشاركة وتشغيله، تشمل هذه المخاطر احتمالات تدني العوائد، وارتفاع تكاليف التشغيل، وتقلبات السوق، يتطلب ذلك نظاماً متكاملاً للرقابة التشغيلية يشمل متابعة مؤشرات الأداء، وتقييم كفاءة الإدارة، وضمان جودة الصيانة، كما يشمل وضع معايير واضحة للأداء، مع مراجعة دورية للنتائج وتصحيح الانحرافات.
مخاطر السوق
تتعلق بتقلبات قيمة الأصل في السوق وتأثيرها على عمليات البيع المستقبلية للحصص، تتطلب إدارة هذه المخاطر دراسات سوقية مستمرة، وتقييماً دورياً للأصل، مع وضع آليات لتعديل قيمة الحصص بما يعكس التغيرات السوقية، يشمل ذلك تحليل اتجاهات السوق، ودراسة المنافسين، وتقييم الفرص والتهديدات المحتملة.
المخاطر القانونية والتنظيمية
تتعلق بالجوانب القانونية والتنظيمية للمشاركة، وتشمل مخاطر عدم الالتزام بالضوابط الشرعية، والمتطلبات القانونية. تتطلب إدارة هذه المخاطر وجود نظام حوكمة فعال، ومراجعة شرعية وقانونية مستمرة، مع توثيق دقيق لكافة المعاملات والإجراءات.
نظام إدارة المخاطر المتكامل
يعتمد نجاح إدارة المخاطر على وجود نظام متكامل يشمل:
– تحديد وتصنيف المخاطر المحتملة
– تقييم مستوى كل خطر واحتمالية حدوثه وأثر حدوثه
– وضع إجراءات وقائية وعلاجية
– نظام متابعة وتقييم مستمر
– خطط طوارئ للحالات الاستثنائية
آليات التنفيذ والمتابعة، حيث يتضمن التنفيذ العملي لإدارة المخاطر تقارير دورية عن المؤشرات الرئيسية، اجتماعات منتظمة لمراجعة المخاطر، تحديث مستمر لخطط إدارة المخاطر، تدريب مستمر للفريق المسؤول، ومراجعة وتطوير الإجراءات الوقائية
متطلبات التوثيق الأساسية للمشاركة المتناقصة
يشكل التوثيق القانوني الركيزة الأساسية لحماية أطراف المشاركة المتناقصة، يبدأ التوثيق بعقد المشاركة الأساسي الذي يحدد حصص الطرفين وحقوقهما والتزاماتهما، يتبع ذلك توثيق الوعد بالشراء من المتمول، وجدول السداد التفصيلي، وآليات تقييم الحصص، يجب أن يشمل التوثيق أيضاً اتفاقيات إدارة الأصل وتشغيله، وتوزيع العوائد والمصروفات، ويتطلب التوثيق السليم مراعاة القوانين واللوائح المنظمة، حيث يجب تسجيل العقود في الجهات المختصة، واستيفاء الشروط الشكلية والموضوعية، يشمل ذلك التصديق على التوقيعات، واستخراج الشهادات الرسمية، وتسجيل الرهونات وغيرها من الضمانات في السجلات المعنية.
الضمانات وأنواعها
تتنوع الضمانات في المشاركة المتناقصة لتشمل الضمانات العينية، كالرهن على الأصل محل المشاركة، والضمانات الشخصية كالكفالات، تمتد الضمانات لتشمل التأمين على الأصل، وضمانات حسن الأداء، والضمانات البنكية عند الحاجة، يجب أن تتوافق هذه الضمانات مع الضوابط الشرعية وتحقق الحماية الكافية لجميع الأطراف.
آليات حماية الحقوق
تتضمن عملية التوثيق وضع آليات واضحة لحماية حقوق الطرفين، يشمل ذلك تحديد إجراءات فض المنازعات، وآليات التحكيم، وطرق معالجة حالات التعثر، كما تشمل تحديد صلاحيات كل طرف في إدارة الأصل، وحقوق التصرف فيه، وآليات نقل الملكية.
التطبيقات العملية للمشاركة المتناقصة
القطاع العقاري: التطبيق الرائد، يمثل القطاع العقاري المجال الأوسع لتطبيق المشاركة المتناقصة، حيث تستخدم في تمويل:
العقارات السكنية: تتيح للأفراد والأسر تملك مساكنهم تدريجياً مع الاستفادة الفورية منها. يشمل ذلك تمويل شراء الشقق والفلل والمنازل، حيث يدخل الممول شريكاً في ملكية العقار مع المتمول، ثم يبيع حصته تدريجياً وفق قدرة المتمول المالية. تتميز هذه الطريقة بمرونتها وملاءمتها لمختلف شرائح المجتمع.
المجمعات التجارية: تستخدم في تمويل إنشاء وتطوير المراكز والمجمعات التجارية الكبرى. يشترك الممول مع المطور العقاري في ملكية المشروع، مع الاتفاق على آلية لشراء حصة الممول تدريجياً من عوائد المشروع. تناسب هذه الصيغة المشاريع الكبيرة التي تحتاج لتمويل طويل الأجل.
القطاع الصناعي: تمويل الإنتاج، تتعدد تطبيقات المشاركة المتناقصة في القطاع الصناعي لتشمل:
المعدات والآلات: تمكن المصانع من تحديث وتطوير خطوط إنتاجها من خلال شراء معدات وآلات جديدة. يدخل الممول شريكاً في ملكية هذه المعدات، ثم يبيع حصته تدريجياً للمصنع من عائدات التشغيل. تساعد هذه الطريقة في تطوير القدرات الإنتاجية دون الحاجة لتمويل كامل مباشر.
قطاع الخدمات: تنوع التطبيقات، يشهد قطاع الخدمات تطبيقات متنوعة للمشاركة المتناقصة:
المرافق التعليمية: تستخدم في تمويل إنشاء وتطوير المدارس والجامعات والمعاهد. يدخل الممول شريكاً مع المؤسسة التعليمية في ملكية المرافق والتجهيزات، مع خطة تدريجية لنقل الملكية الكاملة للمؤسسة التعليمية.
المنشآت الصحية: تمويل المستشفيات والمراكز الطبية والعيادات المتخصصة. تناسب هذه الصيغة المشاريع الصحية التي تحتاج لاستثمارات كبيرة مع توقع عوائد مستقرة على المدى الطويل.
المشاريع التكنولوجية: تطبيقات حديثة في تمويل مشاريع التقنية وتطوير البرمجيات والأنظمة الإلكترونية. تتميز بمرونتها في التعامل مع الأصول غير الملموسة وتقييمها وتحديد آليات نقل ملكيتها.
نماذج أخرى
تظهر باستمرار تطبيقات مبتكرة للمشاركة المتناقصة في مجالات جديدة مثل:
– تمويل مشاريع الطاقة المتجددة
– تطوير البنية التحتية للمدن الذكية
– تمويل مشاريع النقل والخدمات اللوجستية
– تمويل مشاريع الابتكار والبحث والتطوير
وفي الختام تمثل المشاركة المتناقصة نموذجاً متكاملاً للتمويل الإسلامي، يجمع بين المرونة العملية والالتزام الشرعي، مع تزايد الحاجة للتمويل المتوافق مع الشريعة، تبرز أهمية تطوير هذه الصيغة وتعزيز دورها في التنمية الاقتصادية. يتطلب نجاحها تضافر جهود المؤسسات المالية والجهات التشريعية والرقابية والخبراء في مجال الاقتصاد الإسلامي.