الوعاء الزكوي والوعاء الضريبي: فروق نظرية وتنزيلية
بسم الله الرحمن الرحيم
مداخلة التأمين التكافلي، الموسومة ب : ” الوعاء الزكوي والوعاء الضريبي: فروق نظرية وتنزيلية”
Dr. Abdelghafour barkani د. عبد الغفور بركاني
الحمد لله تفرد بكل كمال، وتكرم بجزيل النوال، خلق الإنسان من سلالة من طين، فجعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، علمه البيان، بين له سبل الرشاد ليحصلها وطرق الغواية ليذرَها، أغدق من العطاء وأسدل عليه بما به حصول الضروري من دينه ودنياه وما به صلاح العاجلة والآجلة من سمع وبصر وفؤاد، ولا ينبئك مثل خبير، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وما أمره إلا واحدة، وسبحان من شملت قدرته كل مقدور، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور، نحمده ونشكره على ما أولى، ونشهد أن لا إله إلا الله نعم المولى، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أولاه من العطايا ما هو به أولى، صلى الله وسلم على أول المربين وقدوة المعلمين وإمام الأولين والآخرين، وآله ذوي القربى، وصحابته نجوم الدجى، وعلى التابعين، ومن صار على نهجه وطريقته إلى يوم الدين.
أما بعد:
في ظل التطورات التي يشهدها العالم، لا يمكن للدولة الإسـلامية إلا الالتجاء إلى تفعيل الزكاة ـ لا تبغي عنها بديلاً ـ عوضاً عن الضرائب؛ وما دون ذلك من التنظيرات والفتاوى الواهية المتطايرة لا يمكن أن يُعتد بها، ولذلك كانت الفتوى المجمعية أسلم ـ ولا تجتمع أمتي على ضلالة كما في الأثر ـ وأمتن، ودونك الاجتهادات المعاصرة في الوعاء الزكوي ومصارفها المعاصرة كيف تثقل الفتوى المجمعية و تثمنها؛ وذلك بالنظر إلى الجهة المصدرة للفتوى الصانعة لها، والناس ـ مما لاشك فيه ـ محتاجون في كل وقت وحين إلى مراجع ومنارات علمية ومناهل تربوية وإلى إشراقات اجتهادية رشيدة؛ يسترشدون بإرشاداتها و يهتدون بهديها ويستنيرون بنورها وإليها يرجعون ولبابها يطرقون، بما هي حاجة بشرية ومطلب تكليفي عبر ردح من الزمن وسيظل، كما تستمد الفتوى المجمعية متانتها بما تكفله من جمع الشمل ونبذ التشتت والتشرذم، ذلك أن الرشد حاصل مع الجماعة العلمية، ويد الله مع الجماعة، و يقابل ذلك التيه والفوضى أحياناً مع التطفل و التعالم والانطواء، ومن ثم فتدخل المفتي المقتدر المتمكن ـ الفردي أو المنتمي إلى مجمع ـ يغلق الباب على الفتوى المتطفلة غير المؤصلة تأصيلاً علمياً أصيلاً رزيناً متيناً ووجيهاً، وهو ما يسمى الآن بالمرجعية[1]، والمفتي قبل ذلك وارث إرث النبي صلى الله عليه وسلم والرسل والأنبياء من قبل، مع الأخذ بالحسبات لبعض الاعتبارات و المعالم التي رُسمت لتُستحضَر وتُراعى حق رعايتها قبل وأثناء وبعد النظر.
لا يُحتاج إلى كثير عناء ولا إلى طول نفس لمعرفة كنه الضرائب التي تدفع للدولة لتُنفق منها على المرافق العامة .. وما يلـزم حفظ آمنها واستمرار سيادته وحسن تسييرها للمؤسسات والمرافق العامة. وهي لا تغني عن دفع الزكاة لأن كلاً منهما له مصارف وطريقة حساب مخصوصة ولكل منهمـا مجال في الإنفاق والصرف؛ فأموال الزكاة لها وِجهتها بنص القرآن تنفق على التكافل الاجتماعي ولسد الفاقة والحاجة والـدعوة الإسلامية، بينما الضرائب تنفق على إدارة شئون الدولـة ومرافقهـا العامـة كإنشـاء مـدارس ومستشفيات وغير ذلك.
يعتبر الوعاء الزكوي ير بديل لكل الأوعية الضريبية والأنظمة الاقتصادية التي تعنى بالجباية والانفاق .. لما يضمن من السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام ما ام التعامل فيها وفقاً لأحكام الشريعة، ولاسيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل الذي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي في باب الزكاة التي يمكن أن يكون أحد محط أنظارها الاستثمارية المشتركة بين المزكي والمزكَّى عنه وأوجه المصارف الزكوية، وبذلك نبذٌ للظلم المُحتمل ـ بل كل معاملة من الشرع خالية فالظلم حاصل لا محالة ـ والعدل متحقق مع العدل لاشك.
إن علة الظلم وغيرها من العلل؛ التي من شأنها الحيلولة دون إقامة العدل في المعاملات المالية، وفي أوعية الجباية على اختلاف أصنافها ومصارفها وطرق كسبها وإنفاقها؛ وهي أبعد ما تكون عن حفظ كرامة العاقدين و أموالهم الأصل، وبالظلم تضيع الحقوق و تسلب بالباطل، و تعرض للضياع والهدر، ويقابل ذلك العدل، إذا أضيف إليه القواعد العامة المعتبرة الفي الفقه الإسلامي، والمستندة على الكتاب والسنة، القائمة على العدل وحفظ كرامة الإنسان ـ الذي كرم من فوق سابع سماء ـ بما يغني ويثري الثروة التشريعية المالية، ويجعل منها زخماً زاخراً من الحلول للقضايا المالية و الزكوية و الاقتصادية بشكل عام، بالنظر إلى المقاصد والمصادر والموارد والقواعد، والقاعدة الصحيحة تقول: حيثما وجد شرع الله فثم المصلحة، وليس العكس تماماً.
ويكفي أن يعلم في هذا الباب؛ أن أحكام الإسلام أخلاقية، قبل أن تكون قضائية إلزامية، ولذلك قد يقتطع الظالم من المظلوم حقاً له في المعاملات بغير حق، وهو يعلم في قرارة نفسه بظلمه وتغريره وتدليسه، وقد يقضى لصالحه، على حساب صاحب الحق الحقيقي صاحب المظلمة؛ فيكون الحال كما يعبر الفقهاء على ذلك بقولهم : ” نافذ قضاءً غير نافذ ديانة “ . ولا يوجد هذا أبداً في أي معاملة مالية أو في أي اقتصاد من الاقتصادات الوضعية العالمية قطعاً.
قال تعالى : ” يأيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل” النساء، (29).
وما دام حديثنا في هذا البحث عن الوعاء الزكوي والوعاء الضريبي وما قد يحصل من الظلم بإلغاء الأول أو تعطيله أوتوقيفه أو استبداله بالأدنى، وهذا الظلم خاص محصور في أحد أنواعه، وهو الظلم باعتبار تأثيره في الحكم كعلة لتحريم معاملة مالية لشخصين، فالمناسب الاقتصار على التعريف اللغوي، الذي قوامه اعتداء أحد العاقدين وأخذه المال ظلماً وبغير حق تعدياً صريحاً على الطرف الآخر.
قال ابن فارس (ت395 هـ )، عن الظلم لغة: وهو المشتق من مادة ( ظلم )، والظاء واللام والميم :” أصلان صحيحان، أحدهما خلاف الضياء والنور؛ والآخر وضع الشيء في غير موضعه تعديا [2].
وأصل الجور ومجاوزة الحد، وهو ما عبر عنه ابن الأثير[3] (ت 606هـ)، ولمعرفة ضابط الظلم المؤثر في تحريم المعاملة المالية لابد من الأمثلة التطبيقية التوضيحية.
وأما إفراده بالبحث والتأصيل؛ قد يرد معه تساؤل وجيه وجدير بالعناية؛ وهو: مادام علل التحريم التفصيلية الثلاثة وهي : (الربا والغرر والتغرير) داخلة في علة الظلم؛ فما الإضافة العلمية النوعية والبحثية في علة الظلم إذن؟.
والجواب : أن كثيراً من صور المعاملات المالية؛ قد لا يظهر فيها دخول علة من العلل ـ السالفة الذكر- في حين الظلم يكون فيها بارزًا ظاهرًا؛ قوامه أن يكون فيها تعد جائر على مال الأخر بغير وجه حق.
فإذا ثبت هذا الضابط الأساس أمكن الحكم على معاملة مالية ما بالمنع والتحريم، ناهيك إذا اجتمعت في المعاملات المالية الواحدة عللاً أخرى ـ من المذكورة – ؛ فحينئذ تمنع المعاملة بلا ريب؛ لعلة الظلم وعلة الغرر مثلاً إذا اجتمعتا وهكذا .
المطلب الأول : الفرق بين الآثار المترتبة عن الوعاءين
الأثر يدل على المسير، فمسير الزكاة النماء ومَسير الضرائب يجر خلفه مخلّفات شوهاء؛ والبعرة تدل على البعير؛ إذ العوز والعجز حاصل مع ارتفاع الضرائب لِزاماً، والتنفير من الاستثمارات واقع تِباعاً، ومن ثم يمكن تقريب الآثار الناتجة عن الوعاءين بشيء من التركيز والدقة على النحو الآتي :
- الزكاة ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره التعبدية، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن أول أثر يتصدر القائمة الآثار هو الأثر التعبُّدي الذي يتجاوز الجانب المادي والطابع المالي ويتخطّاه.
- الزكاة أحد الدعامات الأساسية التي بها البداءة في فلسفة الاقتصاد الإسـلامية إذا ما أرادت الدولة الإسلامية أن تنعم بظلال الشريعة الوافرة وترفع بها رأساً.
- في تفعيل الزكاة تـأمين القـوت والضرورات الحاجيات ومكملاتها.
- في تفعيل الوعاء الزكوي تحقيق للرفاهية والأمن الغذائي للناس؛ لأن الزكاة فريضة ابتداءً، والمستقيم على الجادّة موعود بالغدق والعطاء، قال عزّ من قال : ” وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ” الجن: (16).
- الزكاة إشراقة دعوية وقضية رسالِية من الدرجة الأولى؛ ذلك أنها من أحد أهم ما يُسوّق له في الساحات الدعوية المحلية وعلى المنصات العالمين ـ الواقعية والافتراضية معاً ـ إذ تعتبر الزكاة نظاماً مالياً واقتصادياً متكاملاً شامخاً تشتد حاجة العالم برمته إليه كحاجته إلى رسالة الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بأكملها ـ خضوعاً وخنوعاً ـ وإلى ما شرعه صاحب الرسالة العالمية التي لن ينعم العالم أبداً ولن يهدأ له بال ولن يسعد ولن يقرَّ له قرار اقتصادياً واجتماعياً ونفساً وتربوياً …؛ حتى يتصالح معها في دقّها وجلّها، قال تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ” ( 208 )، قال البغوي ـ رحمه الله ـ : ” أي في الإسلام قال مجاهد في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم ) ( كافة ) أي جميعاً وقيل : ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره وأصل السلم من الاستسلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة ، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال : قد خاب من لا سهم له ” . والله المستعان.
- الزكاة مؤسسة رائدة قائمة بذاتها في النظام الاقتصادي الإسلامي ككل، بما تخلقه من روح المبادرة والإقدام في طرق أبواب الرزق التي وسّعت فيها الشريعة الغرّاء، روَت كتب السنن أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بعض حاجته، فسأله: أما في بيتك شيء؟ ، فقال: بلى، بساط نبسطه، وإناء نشرب فيه، فأمره أن يجيء بهما فباعهما بدرهمين، وأمره أن يشتري بأحدهما طعامًا لأهله، وبالآخر فأسًا وقال له: «اذهب واحتطب».. وفي هذا الموقف أكبر دليل على تقرير بث روح المبادرة في المكلَّف، و فيه من حسن التوكل على الله تعالى الذي من مقتضياته الأخذ بالأسباب[4]، أن الزكاة لا يجوز أن تُعطى لمـن يستطيع العمل وكسب قوت يومه. كذلك فإن هذا الموقف يشجع على توجيه أموال الزكاة نحو التنمية؛ فمن الأفضل أن يفكر المزكي بفكرٍ مصلحي يقدم بها أموال زكاته للفقير بشكل يكفل له وجود مصدر دخل دائم يكفيه عن السؤال المستمر كما سلف، ويحوله إلى شخص منتج ومستقل اقتصادياً. تلـك الوسيلة في استخدام أموال الزكاة تعد من أكفأ الوسائل التي تحول المجتمع بأكمله إلـى مجتمـع منتج، خالٍ من البطالة والعطالة، والفقر، ويسعى إلى التنمية البشرية و خلق الكفاءات الاقتصادية.
- فرضية الزكاة وتوضيح الإسلام الجهات التي يجب أن تصرف لها؛ وربط فقه زكاة الإيراد بالإنفاق؛ ضمان كبير لعقلانية توجيه الموارد ورعايتها حق الرعاية، وديمومة النفاذ لفئـات اجتماعيـة معينة، أياً كانت طبيعة الحاكم الذي يحكم الدولة وأياً كانت الظروف الزمانية والمكانية، مـا دام حقّها قدّره الله سبحانه وتعالى من فوق سابع سماء.
- من آثار الزكـاة الوظيفية في المجتمع الإسلامي؛ تحقيق الأهداف السـامية والمرامي النيِّرة القريبة والبعيدة، علاوة على تحقيقها الجوانب الإيمانية والنفسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية.
- ضَعف تفعيل الوعاء الزكوي مع تقادم الزمان، و ضَعف تطبيقها في العصور المتأخرة حتى كادت في بعض الأحيان أن تكون نِسياً منسياً ومن الفرائض المُغيَّبة، والأركان المهجورة، من شأنه أن يقلّل من قيمتها وقوّتها الاقتصادية التي تعيدها للواجهة في كل وقت وحين. نظراً لكونها تفرض نفسها بنفسها لما تحمله في طيّاتها من بذور الخير ودواعي النّجاح في الأولى والفلاح في الأخرى.
- من آثارها الملموسة أن صدرت فيها الأنظمة واللوائح والقوانين في بعض البلاد الإسلامية المسددة، وأقيمت لهـا المؤسسـات والأجهزة، مع تنامي الفكر الاقتصادي الإسلامي.
- الزكاة تمتاز من بين أركان الإسلام الخمسة بأنها الركن الوحيد المتميز بالمرونة القابـل للتطـور والتوسع والاجتهـاد المستمر، وهذا ملموس بين العلماء والفقهـاء وأئمة المذاهب المُعتبرة، بل أخذت حيزاً كبيراً في المجمعات الفقهية والمنديات العلمية والأطاريح الجامعية … إلخ. وبخاصة في الوقت الراهن الذي تنوعت فيه الأموال والمعاملات، وتوسّعت فيه الثروات، واضطربت فيه شؤون المسلمين، وتعَطـّل أو توقف على الأقل تطبيق الزكاة كلياً أو جزئياً في بعض البلدان، مما فتح الأبواب واسعة أمام علماء الأمـة ومجتهديها لتتبّع المستجدات الفقهية المعاصرة الخادمة للزكاة، والأخذ بيد الأفراد والمؤسسات لنفخ الروح مجدداً في الوعاء الزكوي.
- ظهور الـدور الفعـال للزكاة في حياة المسلمين، ويعتبر بروزها مجَدداً بعد أُفول بروز لأحد أهم دعامات الاقتصاد الإسلامي، وفيه تحفيزي لإعمالها للدول تخلّت عن القيام بوظيفة الزكاة، ولأهمية ذلك قلما يخلو مؤتمـر أو نـدوة عن الاقتصـاد الإسلامي وغيره دون أن يتعرض بشكل مباشر أو غير مباشر إلى موضوع الزكاة، بالإضافة إلى النـدوات والمـؤتمرات الخاصة بالزكاة، أو بقضايا الزكاة المعاصرة، والأمور المستجدة فيها نظرياً وعملياً، وهذا في حد ذاته أثر بالغ وبليغ، ومثير ومؤثّر، وإشراقة أمل وبوابة خير ونماء، وبركة.
نتائج البحث
من آكد نتائج البحث الآتي:
- الزكاة ذات علاقة وطيدة ووثيقة بمبادئ الاقتصاد الإسلامي.
- الزكاة تمثل مبدأ العدل في.
- لا ينكر أحد تزايد وتيرة صور المعاملات المالية في عصرنا الحاضر؛ كثرة ووفرة وتنوعًا؛ حتى أضحى تطورها تطورًا مذهلاً تصاعديًا؛ الشيء الذي يُحتاج معه إلى تتبّع ومسايرة مستمرة بلا كلل ولا ملل، ومن هنا تبرز وتتأكد أهمية التكييف الفقهي لمصارف الزكاة لتكون مِطواعة ومسايرة بالأقيسة المعتبرة كل نازل وحادث مستجد، للملمة الواقع وحسن التعاطي معه والاستجابة لحتميات الواقع المعيش، لتلبس كل معاملة مالية ـ قديمة أو حديثة ـ ثوبها الشرعي المناسب لها وَفق المقاسات الموافقة للب الشريعة وروحها وقواعدها الثابتة المستجيبة لتطور المعاملات المالية، ولا تكييف لما يستجيب للمعايير الشرعية؛ إلا بمعرفة الثابت والمـتغير، والتمييز بين الوعاء الزكوي والوعاء الضريبي.
- الوعاء الزكوي ليس فريضة إسلامية فحسب، ولا مجرد تبويبات فقهية في رفوف المكتبات والبحوث والأطاريح العلمية والرسائل الجامعية المحكمة؛ وإنما هي أيضًا ضرورة اقتصادية واجتماعية ملحة، ومدار الاجتهاد في القضية هي معرفة النص الشرعي، ومنه معرفة المعنى والمغزى والمقاصد والدلالة والوجوه العلمية والأقيسة، والنظر بمنظاري الوجود والعدم وهكذا، ثم كيفية التعامل معه وسبل استثماره ـ بالتعبير الغزالي- بعد إثباته من حيث السند والصناعة الحديثية نقلاً وفهماً واستنباطاً، ومن ثم تطبيقًا وتفعيلاً وتنزيلاً، و لا يُتمكّن من ذلك حتى يُعلم الفرق بين الوعاءين ويُميَّز بينها تنظيراً وتنزيلاً ليُعلم أن الفرق كبير والبون شاسع، ومحاولة التقريب بين الوعاءين تقريب أشبه ما يكون بالقياس مع الفارق بلغة أهل الأصول.
- تعتبر بوّابة الاجتهاد المعتبر ـ دون الاجتهادات التعسّفية المنسوفة ـ بوصلة ترشيد الوعاء الزكوي بما يعود بالمنفعة والمصلحة والإصلاح العاجل والآجل في باحة المعاملات المالية والاقتصاد الاسلامي ككل وهو المقصود من أي القرآن التي حدّد المصارف الزكوية تحديداً بليغاً. وعلى ذات المنوال نسج الصنعاني ـ رحمه الله ـ قائلاً : ” الأولى أن يقال: المراد من معرفة الكتاب إمكان استحضار ما يدل على ما يراد من جزئيات الاستخراج فيرجع إليه عند ذلك وليس بمحصور في معين من الأعداد “.[5]
وهذا هو عين الاجتهاد النيّر حتى لا يُقال إن الوعاء الضريبي أنسب للعصر لأنه مرِن مستجيب أكثر لروح العصر ومتغيراته ومتطلباته؛ في حين تُتَهم فريضة الزكاة بالقصور ـ من لدن من تسربت لعقولهم لوثة ـ والعجز عن مواكبة متطلبات العصر وصورها المُتجدّدة وتداعياته.
- تعتبر طرق استثمار النص الشرعي القاطع الحاسم في فرضية الزكاة ومصارفها؛ من الفقه السديد والبُعد المقاصدي المآلي، بعد تحصيل الرصيد الكافي المثبت المقرر للحكم الشرعي بالضرورة والحتمية والإلزامية، وبعد التترس بمنهجية التفكير المنطقي المصلحي، وقواعد بناء الحجاج من الأدلة التفصيلية إلى الأدلة العامة، ومنه إلى تحقيق المناطات العامة والخاصة.
- يعتبر تبيُّن محورية إتيان التكييف الفقهي من بابه الأوسع في باب الزكاة؛ خير مسوّغ لخوض غمار صناعة الفتوى؛ وإتيانها من منافذها الاستدلالية وأبوابها الحجاجية في الوعاء الزكوي.
- لا سبيل إلى ولوج بوابة الاجتهاد الرصين في الوعاء الزكوي؛ وكشف ذاك الخيط الرفيع بين الثابت والمتغير ومعرفة الأولى فالأولى؛ إلا بمعرفة ترتيب علوم الاجتهاد، وأصول الفقه وقواعد الاستنباط، وهو المدل الطبيعي والآمن لا محالة. وقد جزم الرّازي ـ رحمه الله تعالى ـ بأن العلم الأخير هو من أهم وأجل وأولى العلوم التي يجب تحصيلها للمجتهد، مع غيره مما ذكر، قائلاً: ” وقد ظهر مما ذكرنا أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه، وأما سائر العلوم فغير مهمة في ذلك “.[6]
ومن المعاملات التي يظهر فيها الظلم؛ هذا الأخير الذي قد يمس الوعاءين ـ الزكوي والضريبي معاً ـ مماطلة الغني في قضاء حقوق الآخرين، ( لم يكن السلف يماطلون أبدًا، لما علم من قبحه، ولما فيه من تفويت لمصالح الناس).
فقد يُماطل صاحب الزكاة، وقد يُماطل الوعاء الضريبي في تحقيق مصالح الناس ودفع الضرر عنهم.
وقد قررت المجامع الفقهية الوازنة التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة على الوعاء الزكوي، و التمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته، والله أعلم.
قلت مجدداً: متانة القرارات والفتاوى المجمعية تظهر من خلال إيجاد البدائل الشرعية إذا استدعى الواقع ذلك وأفرزته الضرورة الملحة في معاملات الناس، كمتنفس وكمخرج شرعي يرفع الحرج ويفتح الباب الشرعي في وجه المسلمين الأتقياء الأنقياء.
ولا يسعني في هذا المقام وبعد هذا الفتح الرباني جل وعز؛ إلا أن أتقدم بعد شكر الله تعالى أولاً وأخراً، وبجزيل الشكر والامتنان والعرفان لأستاذتي ومشايخي، الذين أفدت منهم علماً وفقهاً وسمتاً، والله سبحانه أسأل أن يبارك في هذا البحث المتواضع وأن يجعله ربي سبحانه وتعالى منارة علم، ينهل منه الطلبة والباحثين، والعامة والخاصة، وصدقة جارية أنتفع بها في الدارين، وهو بحث قابل للرعاية العلمية والتوجيهية المسددة بالنصح. ولمن اطلع عليه كامل التقدير وخالص الحب والاحترام والدعاء .
والله المستعان . وعليه التكلان ومنه يستمد العون والسداد .
لائحة المصادر والمراجع
ـ صحيح مسلم.
ـ إجابة السائل شرح بغية الأمل ، الصنعاني ، محمد بن اسماعيل الأمير . تحقيق القاضي حسين بن أحمد السياغي و د : حسن محمد مقبولي الأهدال . ط 1. بيروت مؤسسة الرسالة ، 1986 م .
ـ المحصول للرازي ، محمد بن عمر بن الحسين ، تحقيق طه جابر فياض العلوم ، ط 1، الرياض : جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ،1400هـ.
- تنبيه : المرجعية : مصطلح عند الشيعة الإمامية وليس هو المقصود، وإلا فأهل السنة قرروا في كتب الأصول مسميات من قبيل الإمام والمجتهد، والإمامة الصغرى. ↑
- المقاييس في اللغة، مادة « ظلم »، ص :(641) . ↑
- النهاية في غريب الحديث والأثر، المبارك بن محمد ، ابن الأثير، تحقيق : طهر أحمد الزاوي وشريكه . بيروت ( بدون رقم الطبعة ) ، ص: (3 / 161). ↑
- قاعدة مهمة؛ قال العلماء في باب الدعاء : إذا دعوت الله بمطلوب من مصالح دينك أو دنياك فأتبع الدعاء ببذل السبب “؛ ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من خلق الله تعالى ممّن يدعون الله تعالى بإلحاح قصد الاجابة وتحقيق المسألة وهو مع ذلك جالسون من غير الأخذ بالأسباب وبذلها، ودليل الرسول صلى الله عليه وسلم : ” عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “المؤمن القوي، خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما ينفعك، واسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قَدَرُ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان “. صحيح، رواه مسلم. ↑
- إجابة السائل شرح بغية الأمل ، الصنعاني ، محمد بن اسماعيل الأمير . تحقيق القاضي حسين بن أحمد السياغي و د : حسن محمد مقبولي الأهدال . ط 1. بيروت مؤسسة الرسالة ، 1986 م .ص: (384). ↑
- المحصول للرازي ، محمد بن عمر بن الحسين ، تحقيق طه جابر فياض العلوم ، ط 1، الرياض : جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ،1400هـ.: (36/6). ↑

