تخطيط الاقتصاد الأسري بوابة الاستقرار وضمان الأمن والأمان
بسم الله الرحمن الرحيم الدكتور عبد الغفور بركاني، باحث في المعاملات المالية والاقتصاد الإسلامي وقضايا الفكر التربوي والأسري…

بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور عبد الغفور بركاني، باحث في المعاملات المالية والاقتصاد الإسلامي وقضايا الفكر التربوي والأسري
تخطيط الاقتصاد الأسري بوابة الاستقرار وضمان الأمن والأمان
الحمد لله أولاً وأخراً، ظاهراً وباطناً، حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على النبي العدنان محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فسعياً نحو تأسيسٍ متينٍ وأرضية صلبة صلدة لقواعد مالية أسرية ولحصانة فكرية وسلوكية ـ عبر هيكلة العادات ـ تسعف الأسر قاطبة على حسن التدبير المالي والتسيير الاقتصادي نحو تحقيق الاستقرار من غير تقتير ولا تبذير ومن غير إسراف ومخيلة؛ بحمل العصا من الوسط، هذا التوسط والاعتدال الذي يُفهم من نصوص الوحيين آيات مستفيضة وأحاديث مستبينة، وأول ما يُبدأ الحديث عنه في هذا المضمار الرابط بين كلية المال والأسرة باعتبارهما حجر الأساس لكل منظومة اجتماعية، وبين الغلو والجفاء والتفريط والإفراط ينبري المنهج المالي الشرعي ليحسم الأمر، بذمه البخل والشح في مقابل رفضه للإسراف والتبذير، بل وجعل الأمر تعبدي محض. مع ذم الخوف من الرزق الذي يُبرهن عن قلة يقين وضَعف في العقيدة.
وبعيداً عن الخوف من الرزق تأمل ما خطاب الله تعالى للفقراء قائلاً: ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” [الأنعام: 151]. فبدأ برزق الآباء، خشية الخوف من الفقر، وإن كانوا أغنياء بشرهم ربنا سبحانه بقوله:” وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا “[الإسراء: 31]. فقال نحن نرزقهم. وهذه من بلاغة القرآن الكريم العظيمة وقوته التعبيرية لفظاً ومعنى.
وتأمل ذلك إن شئت في الحديث ـ الوحي الثاني والمصدر الثاني للتشريع ـ الذي أوكل الله تعالى فيه ملكاً يقول كما في حديث النبي صلى الله عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ” ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أَعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخرُ: اللهم أَعط ممسكاً تلَفاً “[1].
وفي الحديث عظيم الثمرة لمن يُنفق، وأن المُنفق تدعو له الملائكة.
وعنه رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم يُنفق عليك “[2].
وفي الآية: ” قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” [سبأ: 39]. ويقول سبحانه في محكم تنزيله: ” “الحديد: 7).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أي الإسلام خير؟ قال: ” تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف “[3].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أربعون خَصلة – أعلاها: مَنيحَةُ العنز – ما من عاملٍ يعمل بخَصلة منها رجاء ثوابَها وتصديق موعُودها إلا أدخله الله تعالى بها الجنة “[4].
وفي الحديث أنواع أوجه الإحسان والإنفاق والجود على الفقراء والمساكين، والأرحام وهو آكد، والضيف، ووجوه البر والخير.
فهذه الأحاديث مدارها على الحث على النفقة والإحسان والجود والكرم، وأن على المؤمن الموسع عليه أن يُنفق مما حباه الله. والرزق مد وجزر، فإذا وسع الله وسعنا وإذا ضيق ضيقنا.
وبوب صاحب كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل [5] قائلاً: “وفي هذا الباب كراهية التقلل من المطعم ودخول المفاوز بغير زاد ونفقة “.
ثم أورد خبر عبيد الله بن ابراهيم بن يعقوب الحلبي قال: سمعت أبا عبد الله قال له عقبة بن مكرم: هؤلاء الذين يأكلون قليلاً ويقللون من طُعمهم؟ قال: “ما يعجبني، قال: سمعت عبد الرحمان بن مهدي يقول: فعل قوم هكذا فقطعهم عن الفرض “[6].
والإنفاق عندنا إنفاق بمقصد تعبدي وأفضله ما يُنفق المسلم على أهله وعياله، وفي الحديث: “دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك “[7].
وبعيداً عن الاستعباد الطوَعي وبعيداً عن اللهث وراء كل جديد وحادث، صوناً للأسرة من الإشهارات الخداعة ومن التشجيع الاقتصادي الاستهلاكي المُغرض المغري للفرد وللجماعة والأسرة الذي من شأنه إقحام الأسرة في دوامة من الشرود والتيه الذي قد يصل إلى حد التشرد بسبب التطلع إلى مواكبة كل صيحات الموضة وإلى أخر ما ينزل في الأسواق الاستهلاكية، مما يجرؤ بعض الأسر ـ بدافع لذة الشراء ـ على تجاوز مستوى الحياة المناسب لدخلها، إلى القروض الحسنة تارة والتي تثقل كاهلها، وإلى الأشنع والأبشع من القروض الربوية ـ ومحاربة رب البريات سبحانه ـ التي تسيل لعاب البنوك الربوية التقليدية المستعدة في كل وقت وحين بمنتوجاتها المشينة وعروضها البراقة التي تترصد كل مرصد لهذه الأسرة، لتدفع بها دفعاً إلى دوامة الاقتراض، والتشبع بما لم تُعطى بالتطلع إلى مستويات من الحياة تفوق قدراتها الشرائية وطاقتها الاستيعابة، وكم كان ذلك سبباً لتخريب غير قليل البيوت، وتفكيك الأسر وجرها نحو الإفلاس والضيق والحرج.
وبعيداً وعن المقارنات – التي لطالما جرت الويلات على جمهرة من الناس – بين المستويات المعيشية بين الأفراد والأسر والعائلات؛ ويذكر الخبراء أنه من الأخطاء القاتلة ما تعمد إليه بعض الأسر من المقارنات الواهية بين مستوى حياة الأسر الأخرى التي قد تفوقها بكثير من حيث الدخل، ويكفي أن يُعلم أن ذلك التفاوت والتفاضل من صميم مقتضى القضاء والقدر الذي هو سر من أسرار الله في الأرض، ومن لب حكمة توزيع الأرزاق من الرزاق المنان سبحانه منه بمقدار، ولذلك كان من القواعد النافعة للفرد والأسرة معاً ما علمنا إياه النبي المختار صلى الله عليه وسلم عندما أمرنا أن ننظر في أمور الدنيا إلى من هو أسفل منا ومع أمور الأخرة إلى من هو أعلى منا، قال صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله “[8]. وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخَلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه “[9]. وهذا المنظار كفيل إلى حد كبير ـ بعد توفيق الله تعالى ـ بأن ينفض الغبار على كثير من المنخَدعين والساخطين والمتسلقين للقمم الشوامخ من غير زاد وقدرة.
وهكذا يختلف المنظور الإسلامي عن نظيره الوضعي المُغرض الذي يهدف إلى تكسير شوكة المسلمين، بشتى وسائل الإقناع، والتي منها محاولة اقناع السواد الأعظم من المسلمين بدعوى تقليل الاستهلاك تارة، والتغلب على السكان من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي تارة، ومحاولة اقناع بعض الدول التي تحاول أن تتدخل في خصوصياتها لتجعلها تحت وصايتها، وتمس أرقى مضغة في المجتمعات وهي الأسرة كبوابة للتسلل ودخول البيوت وتخريبها بلا استئذان في إطار بث المناهج الغربية، بل تتبارى مدارسها المغروزة كألغام حربية في ربط أبناء المجتمع الدولي والإسلامي بثقافة الغرب وحضارة السقوط – والساقط لا يُسقط – ونشر ثقافة الماديات ـ وشعارها استهلك لتستهلك ـ التي صارت بسببها أثرى وأقوى من الروحانيات، حتى استطاعت تغيير الأذواق وإفسادها كماً ونوعاً، إدراكاً منهم أن العمليات مبنية على الاعتقاديات صحة وفساد، والاعتقاديات أصل والعمليات فرع، وهذا ما تفطن له المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثالثة سنة 1400 هـ، ولا يُنبئك من خبير عندما صرح بعواقب الأمور ومآلاتها، فهل من سامع وهل من مستجيب، حيث صدر عنه الآتي : قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في الحكم الشرعي في تحديد النسل.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وعلى آله وصحبه… وبعد: فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى بتنظيم الأسرة.
وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
نظراً إلى أن الشريعة لإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة ومنة عظيمة من الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية منم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ” ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمال البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. ”
وهكذا أجمع المجمَع على عدم جواز تحديد النسل خشية إملاق، لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وسوء ظن بمن خزائنه لا تفنى، أما إن كان تحديد النسل أو منعه خوف الضرر أو لأسباب أخرى شرعية بتقرير الطبيب المسلم الثقة ممن يوثق في أمانتهم وخبرتهم وديانتهم، فإنه لا مانع شرعاً.
بل إن القوم أرادوها عوجاً متجاوزين حرمة الأسرة ومقوماتها إلى الحيوانية والشهوانية والبَهمية، ولا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة أن المجتمع إذا ساد في الفواحش، يكون أحط من الحيوانات، ولذلك كان من أسرار الشريعة الإسلامية الغراء ومنهجها الوسطي الفريد المناسب للفطر السليمة أن جمعت بين الجانب الروحي والمادي من غير تفريط ولا إفراط، دونما اليهودية التي غلبت الجانب المادي على الجانب الروحي عكس ما هو قائم مع النصرانية من تغليب الجانب الروحي على حساب الجانب المادي.
خاتمة:
لما كانت الأسرة محورية واستقرارها مطلب ملحّ لإحداث أي تنمية منشودة وبناء أي صرح مجتمعي كيفما كان شكله ولونه وعرقه وانتماؤه؛ تحتّم التفكير الجاد لوضع حصن حصين يصونها دون انهيارها وحاجزاً منيعاً دون سقوط هذه اللبنة التي اضحت منذ ردح من الزمن مُستهدَفة من الداخل والخارج، إذ لم تكن لتسلم هذه الأخيرة مما يُراد لها و يُحاك في المختبرات الغربية والشرقية؛ مما ينخر جسدها المتماسك، إيماناً راسخاً منهم أنه بصلاحها صلاح المجتمع والعكس صحيح، وتيقناً منهم وقناعة راسخة أنه لا أفتَك لهذه الأسرة ولا أفسد لها من المفاسد التي تفتِك بها فتك السّهام بلا قوس ولا وتر؛ ومن ذلك الجهل والعنف والظلم المتبادل، وكل شائبة تشوب هذا الكيَان الحيوي وتخدِش في كينونتها لتحول دون استتباب الأمن فيها واستقرارها، وثباتها الذي منه ثبات المجتمعات واستقرارها بالتّبع. وقد تسلّل هذه المرة أهل الشّقاق والنِفاق – وخُدّام الماسونية وغيرهم – عبر بوّابة المرأة والأسرة – ضرباً للولاية الصغرى قبل الولاية الكبرى – لاقتحام لب المجتمعات ومفاصلها، وليجعلوا منها بضاعة رخيصة مزجاة في معرض أصحاب الشهوات والنزغات الحيوانية الشيطانية وسيلة مبتذلة، ومن صورتها تجارة رائجة في بعض المصانع لترويج السلع، وهكذا مكرهم كبّار دهاءُ بالليل والنهار ليصبح المجتمع مخَلخل مُنفلت من الرابطة الدينية، كما وضعوا صورها الكاشفة الساقطة في المجلات الخليعة .. وجعلوها تُزاحم الرجل في الأعمال الشاقة والوظائف الصعبة – الشرطة والجندية … – فسلبوا منها أنوثتها التي هي مصدر قوتها – لأن قوة المرأة في ضَعفها – وقد خصّها الله تعالى بميزات تنعدم عند الرجل والعكس صحيح، فكلٌ مُيسر لما خُلق له، ولمثل هؤلاء يُقال أين أنتم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالنساء خيرا “[10]. بل وصلت بهم الجرأة إلى مراجعة القطعيات المالية، كالمنصوص عليها ـ بنصوص قطعية الدلالة والثبوت ـ في الميراث، والذمم المالية للزوجين، والأموال المكتسبة بين الزوجين … إلخ. حتى صار يُنظر ـ بحسبهم ـ إلى الأسرة كما لو أنها سوق أو مقاولة مالية وشركة ربحية، بدل الأسرة المبنية على البذل، والسخاء، والكرم، والإحسان، والهبة، والصدقة، والعطية، وقبل ذلك على السكينة والمودة، والرحمة، والعرفان، وشكر الجميل، والوفاء.
وهذا وذاك جعل المرأة في كثير من الأحيان تتخلّى عن وِسامها الرّاقي وتاج رأسها الواقي ومهمّتها العظيمة ووظيفتها الحقيقية في صناعة الأجيال، ومهمتها الجسيمة – كما كانت من ذي قبل – في تخريج العظماء الذين سجّل التاريخ أسماءهم فدخلوا من بابه الأوسع، كما جعل كثير من الأزواج يضطرّون لجلب الخادمات الأجنبيات لتربية الأولاد وتنظيم شؤون بيوتهن، وهو ما سّبب كثيراً من الفتن وجلب الشرور الجسيمة ـ وما خُفي أعظم ـ بل جرّ الويلات على الأولاد عاطفياً ونفسياً وتربوياً ومادياً واجتماعياً… وهو ما سينسحب على أسرهم الجديدة مستقبلاً، وكأنها آثار متجدّدة متوالدة وفيروسات متحوّرة مسلّطة ودسائس مدسوسة [11] نحو ذوو القلوب المنكوسة والعقول المعكوسة، والسبب الرئيس في ذلك الحرص على زيادة الموارد المالية الأسرية لكن غالباً على حساب التنازل عن ممتلكات لا تقدر بثمن ولا بمبلغ مالي.
وهذا وذاك لوبيٌ يخطّط لها تحت مسميات الحرية الفردية المطلقة التي – ليس لها خُطم ولا أزمّة، وشعارات – الحداثة وما بعد الحداثة – تحت مظلّة زمن ترشيد الإنسان والأسرة، بشعارات رنّانة منمّقة – تمضمضت واستنشقت – تقرع الأذان وتستهوي النفوس الضعيفة والأفق المحدودة ممن انطلت عليهم هذه الدعاية، من قبيل ما تُرفع بها أصواتهم: ” معاً نحو تغيير الحياة في مختلف جوانبها ” ، من غير غربلة المفاهيم وتمحيصها، تمهيداً لِتُستَلب هذه الأسرة ويُسرق منها مصدر القوة والعزة والكرامة، وحتى تقع في دوامة الانحرافات ومستنقعات الرذائل، ومن ذلك الدفع بها نحو ما لا يُحمد ممن يبغونها عوجاً، بدل الارتقاء بها وتجنيبها ما يهوي بها في دركات الحضيض ويجعلها مستعبدَة للموضة[12] المزعومة ، التي تجعل من الأفراد والجماعات قطيعاً يُدبَّر بعد أن يُعطَّل تفكيره ليُقاد ولا يقود، وذلك كله في مزاحمة مشينة بين الجنسين عبر خلق صراع مُفتعَل بينهما وحساسيات مُزيفة – من قبيل المساواة المُغرضة تارة وبالمناصفة تارة أخرى – ، وهكذا التسوية بين الجنسين مظهراً ومخبراً، ومن ذلك الملبس والمشي والحركات والسكنات؛ وربّنا سبحانه جلّ وعز يقول من فوق سابع سماء: ” فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” [آل عمران: 36]”. في محاولة – فاشلة – لجعلهم سِيان في الحقوق والواجبات، ولكأنهم أرادوها صراع وندية ورُجولة في بدايات انقراضها واضمحلالها، وكأنها الدّياثة في مستَهَل تحلّلها وانحلالها تحت مُسمى كسر العقلية الذكورية وغيرها من المسميات الجذَابة المُغرية، التي يُفترض أن تُوضع في ميزانها فلا يُطلق الحبل على الجرّار – ولا أسعف على ضبط ذلك من وضع القوامة في نصابها الشرعي بلا تفريط ولا إفراط وبلا غلو ولا جفاء، وقل مثل ذلك مع الأنوثة – وكأنها أنوثة تُذاب في صهريج مائعٍ ذوبان الملح في الماء … إلخ.
وقد عناهم أمير الشعراء في زمانه أحمد شوقي – رحمه الله – بقوله:
لا تحذ حذو عصابة مفتونةٍ … يجدون كل قديم شيء منكراً
لو استطاعوا في المجامع أنكروا … من مات من آبائهم أو عمّرا
من كل ماضٍ في القديم وهدمه … وإذا تقدم للبناية قصراً
وأتى الحضارة بالصناعة رثّة … والعلم نزراً و البيان مثرثراً [13].
وهكذا سيتأكد القارئ النَّبيه أن الحديث عن الأسرة والأسرة المسلمة تحديداً، التي مُنطلقها الشرع، وواحتها مقاصد الشريعة الإسلامية الغرّاء؛ حديث له وزنه ووجاهته الشرعية والقانونية، ذلك أن الشرع لم يترك الأمة الإسلامية دون ضوابط عامة تضبط بناءها الداخلي، بل شيّد هذا الصرح الأسري وربطه بالمحيط الذي تعيش فيه (الداخلي والخارجي) بقواعد شرعية وضوابط مرعية، فجاء بأحكام النكاح وحسن العشرة والطلاق والخلع والمعاشرة في أبهى صورها، وتلمّس ذلك في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ” [النساء: 19]. وقوله تعالى : ” وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ “[البقرة: 237] وهلم جرا من التأصيلات والقواعد الأسرية القرآنية… إلخ.
وأخيراً؛ أقول إن الطبيعة تأبى الفراغ، فإما أن تكون أو لا تكون، وإذا لم تكن لك رؤية مالية وسلوكية واضحة ومدروسة فأنت ضمن مخططات الأخرين شئت أم أبيت، ولا أقل من أن يُزاحم أهل الدراية والرعاية والرؤية الثاقبة – رغم قلّتهم وهي سنة الله في الأرض [14] – أهل الهدم ومعاوله، وجنودهم المجنَّدة لشرنقة الأسرة مادياً ومعنوياًعن مقوماتها وقيَمها، كبوابة لهدم المجتمعات ونسفها؛ بل ومحاولة جعلها على نسق واحد ونموذج عالمي أوحد، بدءاً من تحديد المفاهيم الأسرية على مقاس معيّن ووفق أنموذج مخطّط له.
وهي سحابة عابرة للقارات تستهدف الأسرة في عُقر دارها وتدخل على مقوماتها بلا استئذان، حتى لا تكاد تنفرد معها الأسر – النووية – والعوائل عن النموذج الذي وقع عليه الاختيار من لدن جهات مغرضة مشبوهة لا يمكن استئمانها على الأفراد والأسر والمجتمعات، وكيف يُستأمن الذئب على الشياه [15].
- متفق عليه. ↑
- – متفق عليه. ↑
- – متفق عليه. ↑
- البخاري، ر.ح 2631. ↑
- الحث على التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل والحجة عليهم في ذلك، تصنيف أبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال رحمه الله ( 234 م ـ 311 هـ). اعتنى به فواز محمد العوضي، ص : 41. ↑
- انظر طبقات الحنابلة (2/176 ـ 178). ↑
- مسلم، ر.ح 995. ↑
- مسلم ، ر.ح 2963. ↑
- البخاري، ر.ح 6490. ↑
- رواه البخاري، 5186. ومسلم 1468. ↑
- وكم هي حساسة هذه المرحلة وكم يُحتاج معها إلى تعقل وحكمة تجنباً للأخطاء القاتلة في الرعاية والتربية والتي يمتد أثرها المدمر لنفسية الأطفال، الذي يُسبق أحياناً بعقوق الوالدين لأبنائهم ابتداء. إذ العنف يولد العنف والعكس صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم :”إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ” رواه مسلم2594 . وكذا السيرة النبوية الصحيحة العطرة فيها إشراقات تربوية فريدة في عدم مواجهة الخطأ بالخطأ وبالعنف، ودونك ما صنعه مع أنس بن مالك رضي الله عنه. ↑
- والموضة خدعة ابتدعها أصحاب الشركات والمنتجون لخداع الزُّبناء وتحفيزهم على الاستهلاك. ↑
- ديوان الشوقيات، 1/151. ↑
- وتجد مدح هذه القلة في القرآن وذم ما يضادها فيه، وكذا في الأحاديث التي زكت القلة وغربتها في آخر الزمان، وتأمل ذلك في حديث الريشة السوداء في جلد الثور الأسود، وعند الحافظ العراقي: فيما رواه أحمد في مسنده قال حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن يزيد عن جندب بن عبد الله أنه سمع سفيان بن عوف يقول سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول قال رسول لله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم ونحن عنده طوبى للغرباء فقيل من الغرباء يا رسول الله قال أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم وابن لهيعة مختلف فيه -. ↑
- ولمن أراد تعرف ما يخطط له لهذه الأسرة فليتأمَّل في تقرير يُعد من أخطر التقارير التي أفصحت عن مكنونات ما يدَبّر للأسرة في رسالة للدكتوراه بأبعاد ونتائج مستفزة، وهاك قبس منها: تعد هذه الأطروحة الموسومة ب : ” المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة “. من تأليف الباحثة الدكتورة كاميليا حلمي، وقد قدمتها للحصول على درجة الدكتوراه من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة طرابلس، لبنان، العام الجامعي 1440 ه، ونوقشت علنياً ونالت درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز.
قامت الباحثة التي كانت تعمل في مكاتب الأمم المتحدة بدراسة علمية لنصوص أهم المواثيق الدولية التي تشكل ( واكتشفت أن تطبيق ما تحتويه تلك المواثيق من مضامين، واستراتيجيات، وآليات يؤدي بمجموعه وتفاصيله إلى تدمير مؤسسة الأسرة واستئصالها من جذورها بصورة كاملة، وهو يمثل تهديداً ليس للمجتمعات الإسلامية فحسب، بل وللوجود البشري بأسره. وهذا ما حذّر منه الدكتور المسيري قبل سنوات طويلة في كتابه النفيس ” رحلتي الفكرية “. ↑