قيم الاقتصاد: اتصال وانفصال
بسم الله الرحمن الرحيم الدكتور عبد الغفور بركاني باحث في المعاملات المالية والاقتصاد الإسلامي وقضايا الفكر والتربية والأسرة….

بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور عبد الغفور بركاني
باحث في المعاملات المالية والاقتصاد الإسلامي وقضايا الفكر والتربية والأسرة.
قيم الاقتصاد: اتصال وانفصال
يقتضي المنهج القرآني في الاقتصاد والسياسة توجيه الخليقة للتي هي أقوم في الاقتصاد وللتي هي أسلم وأصلح في السياسة، و” حدد القرآن قواعد السلوك بما يمكن اعتباره ضوابط عامة أو تشريعاً أو ما يندرج في باب الأخلاق والآداب: فمن الضوابط ما يتعلق بالالتزامات بصيغة الأمر أو النهي أو التحذير أو ما يعتبر نماذج أو سلوكات تجتنب: قال تعالى :” وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}ِ(المائدة:2). ومن التشريع ما جاء في القرآن الكريم مثلا عن ضوابط التجارة والديون والرهان والإشهاد:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ … وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” البقرة، (282).
ولم تقتصر دعوة القرآن على التشريعات والمبادئ الأخلاقية والقيم فحسب، بل رفعت من درجة هذه الدعوة إلى مخاطبة ذلك الحس الاجتماعي الرفيع عند المؤمن وهو التسامي عن الحق بالعفو والإيثار والإحسان … وصدق الله العظيم حين قال:” مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ” الأنعام (38)[1].
تعددت القيم التي تنظم علاقات الفرد في المجال الاقتصادي سواء في تفاعله مع غيره أو في طريقة استهلاكه، وقد اعتمد الدكتور القرضاوي تقسيماً بديعاً لهذه القيم رام فيه التراتبية التي تطبع الاقتصاد بدءاً من الإنتاج مروراً بالتداول والبيع والشراء والاستهلاك.
أولاً: في مجال الانتاج
عرف د القرضاوي الإنتاج بقوله:” خلق الثروة عن طريق استغلال الإنسان لموارد البيئة”[2].
فالإنتاج هو نتاج تفاعل الإنسان واستغلاله لما تنخر به الأرض من موارد ويعبر عنه القرضاوي بكونه” مولود نشأ من تزاوج بين الإنسان والأرض وتقوم على عنصرين أساسيين الأرض والعمل”[3].
ولا يمكن الحديث عن القوة في الاقتصاد وغزارة في الإنتاج في معزل عن جدة العمل، الذي ” هو أول دعائم الاقتصاد وحين مجدت دعائم الإسلام والعمل نوهت في الوقت نفسه بمنزلة الاقتصاد”[4].
فالإضافة إلى إحسان العمل الأمانة والإخلاص وهما ” خلقان أصيلان تتوقف عليهما جودة العمل وحسن الإنتاج”[5].
ثم الاستقامة على شرع الله التي تقتضي عدم ارتكاب المحرمات التي قد تضعف حيوية المسلم في ضَعف الإنتاج”[6].
كما نجد قيم ” الوقت الإنتاج في دائرة الحلال والمحافظة على الموارد”[7].
ثانياً: في مجال التداول (البيع والشراء).
التداول هو مجموع العقود والعمليات التي يتبادل الناس من خلالها الأعيان والمنافع ـ السلع والخِدمات ـ عن طريق البيع والشراء[8] .
ومن بين هذه القيم التي تنظم فعل التداول ” منع التجارة في المحرمات والصدق ويُعرف الصدق بكونه الإخبار عن شيء بما هو عليه”[9].
ومن القيم في مجال التداول كذلك نجد الأمانة التي” تعني تحمل المسؤولية والقيام بالتكاليف”[10].
ثالثاً: في مجال الاستهلاك
ترشيد الاستهلاك لابد أن يسدد بقيم تجعلهم معقلناً، بحيث لا يطغى فيه جانب عن أخر حيث إنه لا قيمة لإحسان الإنتاج إذا لم يًحسن الناس استهلاك ما ينتجون”[11].
بالإضافة إلى قيم الإنفاق على الطيبات باعتدال، وجوب الإنفاق، تحرم الإسراف، تحريم البخل والتقتير، التنفير من الاستدانة، النهي عن التفر، (أواني الذهب، الديباج، الحرير … )[12].
ومن الاشراقات العلمية والواقعية المعاملات المالية الإسلامية والاقتصاد الإسلامي [13] الأعم والرائد ككل بالنظر إلى ارتكازه على القيم، هذا الأخير الذي لا يختلف اثنان من المنصفين على شموخه ورسوخه وقوته التي يحملها في بذوره، بل لا غرو أن تُسمع أصواتاً قوية مدَوية من مصادر مسلمة وغير مسلمة تشيد بالفقه المالي الإسلامي واقتصاده وتنوه به صالحا مصلحاً، من لدن أساطين الفقه العالمي المقارن اعترافاً وانصافاً، وهي لا تعدو أن تكون مجرد شهادة يُستأنس بها نظرياً، وإلا فالاقتصاد الإسلامي لا يفتقر إلى الشهادات الغربية والشرقية ولا لحاجة ليُحكم له بالريادة والرقي. والهيمنة على الاقتصادات الوضعية الوضيعة التي سرعان ما تظهر فيها الفجوات وتعتريها الثغرات وتشوبها الشوائب وتلحقها الانتكاسات، ذلك أنها افتقرت إلى القيم الحامية للفرد والجماعة، ولديمومة تحقق مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية.
بل لا يُعلم نظاماً أجدى ولا أجدر في ضبط المعاملات والمعاوضات التي يُطرق بابها في الحياة ولابد من مثل النظام الاقتصادي الإسلامي، ما دام قائماً على القيم الحاكمة له، وما دام يسري سريانه في البيع والشراء والأخذ والرد ذلك أن” وجوب المعاوضات من ضرورات الدنيا والدين، إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه، بل لابد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه لفسد الناس، وفسد أمر دنياهم ودينهم، فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة، وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب، وبعث به الرسل … ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها، فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه لم يشرع الإكراه، ورد الأمر إلى التراضي في أصل المعاوضة وفي مقدار العوض”[14].
وقد جعل الفقهاء لعقود المعاوضات سياجاً تُصان به، مع مراعاة السبل الأرفق بالناس بحكمة بالغة ونظرة مقاصدية نافذة.
وتصحيحاً لعقود الناس بُغية تحقيق مصالهم وتكثيرها، قدر الشارع الغرر [15] ، ونظراً للمشقة العظيمة الحاصلة إذا ما أُريد الاحتراز من الغرر والجهالة اليسيرين اللاحقين بالعقود، قال العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ :” عفا الشارع عن بيع ما اشتد مشقته، كالفستق والبندق والبطيخ والرمان والبيض، وأساس الدار المدفون في الأرض، وباطن ما في الأواني في المائعات، واجتزأَ فيه الرضا فيما علمه المكلف من الأوصاف، ولم يُشترط الرضا فيما وراء ذلك لما فيه من المشقة العظيمة “[16].
ومن القواعد الفقهية قولهم:” كل غرر عسُر اجتنابه في العقود، فإن الشرع يسمح في تحمله”[17].
ومن مفردات العلم الدقيقة ذات الصلة بالفقه الاقتصادي المقَعد؛ ما عبر عنه الفقهاء بقواعد فقهية قليلة العدد وافرة المدد متشعبة الفروع والجزيئات؛ من قبيل قولهم وهم يُقَعدون لمعاملات مبناها على صلاح الفرد والمجتمع وحفظ مصالحهم ما أمكن جلباً وتكثيراً، وعلى تحقيق سعادتهم في الدارين، ودفع الضرر عنهم كلياً أو تقليلاً، قولهم:” يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”[18].
وقولهم :” تصرف الإنسان في خالص حقه إنما يصح إذا لم يتضرر به غيره”[19].
وقولهم :” إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما”[20].
وهذه القواعد نزر قليلٌ جداً أوردتها هاهنا للتمثيل للجانب القيمي التربوي في المعاملات عامة، وللفت النظر إلى دقة التقعيد في هذا المضمار المصلحي؛ وإلا فسيأتي إيراد القواعد الكبرى الخادمة لمقاصد البحث مع بعض تطبيقاتها التي يخرج منها مسائل تربوية وومضات قيمية نافعة ماتعة في بابها.
خاتمة:
بعد هذا البحث المقتضب الشائك الشائق في قيم الاقتصاد: اتصال وانفصال، يمكن أن نهتدي إلى أن القيم الاقتصادية في شريعة الإسلام مصدرها الوحي الإلهي، وليست مجرد قوانين بشرية وضعية وضيعة تنظم علاقات الأفراد وتعاملاتهم، قال الدكتور أحمد يوسف: ” إن النشاط الاقتصادي في الإسلامي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة التي أساسها ولبها توحيد الله”[21].
فوظيفة هذا الاقتصاد مقصدها ضبط المعاملات بين الأفراد وتسديد السلوك الفردي والأسري والمجتمع، وربط الحياة كلها بالأخلاق بلا انفصال، إذ لا انفصال بين الاقتصاد والأخلاق، ولا بين الحرب والأخلاق، وبتعبير القرضاوي فالأخلاق لحمة الحياة الإسلامية وسدادها[22].
إن الهدف الأساسي من القيم الاقتصادية والبحث عن تنظيم نسقي ومتكامل لحياة الأسر حتى تعيش في أحسن الظروف والأحوال وتلبي حاجاتها النفسية والسوسيواقتصادية والثقافية والفكرية وغيرها لجميع أفراد الأسرة[23].
- مدونة القيم في القرآن والسنة، منشورات المركز المغربي للداراسات والأبحاث التربوية، ذ محمد بلبشير الحسني، طبعة 2008، ص: 80 ـ 81. ↑
- دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، ص: 132. ↑
- المرجع نفسه، ص: 138. ↑
- بيداغوجية القيم أسسها ومكوناتها ومرجعياتها الأساسية، لمحمد أولحاج، ص: 50. ↑
- دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، د يوسف القرضاوي، ص: 155 ـ 156. ↑
- المرجع نفسه، ص: 157. ↑
- المرجع نفسه، ص: 162. ↑
- المرجع نفسه، ص: 262. ↑
- القيم الإسلامية في السلوك الاقتصادي، لأحمد يوسف، ص: 102. ↑
- المرجع نفسه، ص: 102. ↑
- دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، د, القرضاوي، ص: 197. ↑
- المرجع نفسه، ص: 297. ↑
- وليس من الضروري الحسم في الجدل القائم بين علماء الاقتصاد المعاصرين بخصوص تعريف الاقتصاد الإسلامي؛ حيث نجد فريقاً وجد فيه علماً قائماً بذاته، وفريقاً يرى فيه مذهباً، وثالث ينظر فيه على أنه نظام، وفريق رابع يرى فيه أنه مذهب ونظام في آن واحد ولا ضير. ↑
- مجموع الفتاوى، لابن تيمية، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، ص: 29/ 190.
- الغرر: ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى هل يكون أم لا. انظر: التعريفات للشريف الجرجاني اعتى به مصطفى أبو أيوب، مؤسسة الرسالة ناشرون، الطبعة الأولى، 1427 هـ / 2006 م، ص: 81. ↑
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام لأبي محمد عز الدين عبد العزيز عبد السلام السلمي، تحقيق عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1999م، ص: 2/ 300. ↑
- المصدر نفسه، ص: 2/159. ↑
- ↑
- القواعد الكلية والضوابط الفقهية، محمد شبير، دار الفرقان، عمان 2000 م. ص: 181. ↑
- الأشباه والنظائر، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت 1403 هـ ، الطبعة الأولى، ص: 87. ↑
- القيم الإسلامية في السلوك الاقتصادي، لأحمد يوسف، ص: 106. ↑
- دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي ، الدكتور القرضاوي، ص: 8. ↑
- بيداغوجية القيم أسسها ومكوناتها ومرجعياتها الأساسية، لمحمد أولحاج، ص: 52. ↑