مسألة ليس عليها دليل!  

‏ بسم الله الرحمن الرحيم مسألة ليس عليها دليل! عبدالرحمن نورجان ([1]) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول…

‏ بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة ليس عليها دليل!

عبدالرحمن نورجان ([1])

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما بعد:

المتتبع للواقع يرى أن كثيراً من الإشكالات التي يطرحها بعض طلبة العلم وبعض المنتسبين العلم أنهم يردون بعض الأحكام الفقهية لأنها ليس عليها دليل صحيح, وبناء عليه فإنهم يريدون الانطلاق من جديد في بناء الفقه بالاعتماد على كتب السنة الصحيحة كالصحيحين ثم السنن ثم المسانيد وما صحّ -عندهم- من بقية دواوين أهل السنة في الأحاديث المرفوعة والوقوف وآثار التابعين حتى يكون الفقه الإسلامي مبنيّاً على أدلة صحيحة كما يقول هؤلاء! وهذا الطرح فيه عدة إشكالات..

سأذكر تلك الاشكالات مع الرد على أهمها من وجهة نظري.

‏أولاً: أن لازم هذا الكلام هو تخطئة أغلب العلماء([2]) في أمة الإسلام أو كل أمة الإسلام من أهل السنة والجماعة -إلا النزر اليسير-التي كانت ولا زالت تتبع هذه المدارس السُّنية السَّنية الأربعة وإذا بطل اللازم بطل الملزوم, لأن الحق مع الأغلب هو أحرى من كونه مع الأقل.

ثانياً: أن هذا الكلام غيرُ واقعي لأنه في الأخير سيوقعنا في إشكال آخر؛ وهو افتراض أنه لابد من كون العالِم أن يكون محدثاً مجتهداً في علوم الحديث, من حيث أن يكون له اجتهاده الخاص في التصحيح والضعيف خاصة, وفي علوم الحديث عامة, وهذا لم يذكره أحد من المتقدمين بل جاء عن السلف ما يدل على خلاف ذلك من حيث أنهم رأوا أنه لا يمكن أن يستغني المحدثُ الراوي عن الفقيه غير المحدث كما جاء عن عبيد الله بن عمرو, قال : كنا عند الأعمش([3]) وهو يسأل أبا حنيفة عن مسائل, ويجيبه أبو حنيفة, فيقول له الأعمش: من أين لك هذا؟ فيقول: أنت حدثتنا عن إبراهيم بكذا, وحدثتنا عن الشعبي بكذا, قال: فكان الأعمش عند ذلك, يقول: يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة([4]) ..

وإلزام الفقيه بهذا الأمر فيه مافيه من تعنت في الاشتراط, حيث أن كثيراً من أساطين الفقه ليسوا بمجتهدين في علم الحديث, ‏بل ربما قلد الفقيهُ المجتهد غيرَه من المجتهدين في علوم الحديث كالتصحيح والضعيف وغير ذلك,‏ كما روي ذلك التقليد عن الشافعي-وهو من هو في الحديث- حيث(قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح لكم الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقولوا لي حتى أذهب إليه)([5]) .

ولو قلنا تنزلاً بأنه تجب مرتبة الاجتهاد في علوم الحديث للفقيه فإننا لن نقطع الإشكال لأن التصحيح والضعيف هو أمر اجتهادي يختلف من فقيه لآخر!

وبصورة أوضح:

فمن يقول علينا ترك المذاهب الأربعة لأن هناك عدداً من المسائل غير مبنية على أدلة!! وإن سُلّم بوجود دليل لها من السنة فهي ضعيفة! وبالتالي فيلزمنا تنقيح الفقه لتقليل الخلاف بين المسلمين, ويجب كذلك تنقية الفقه غير المبني على أدلة صحيحة مما هو بني على أدلة صحيحة!!

فيمكننا أن نقلب عليه الدليل من حيث أن اعتماد هذا الأمر يؤدي إلى تعدد الأقوال أكثر وأكثر وبالتالي تتعدد المذاهب, وهذا يؤدي إلى حصول نقيض الهدف المراد تحقيقه من ترك المذاهب الأربعة.

‏لأنه كما ثبت أن تصحيح الأحاديث أو تضعيفها أمر اجتهادي ونسبي, وبالتالي فنقع في نفس الإشكال بل أشد, فما يكون صحيحاً عند زيد يكون ضعيفاً عند عمرو, والنتيجة هو حصول نقيض المراد الأصلي لترك المذاهب الأربعة.

‏وهناك أمر أهم في هذا الموضوع يدل على سبب طرح مثل هذا الموضوع أي موضوع ترك المذاهب المعروفة وهي الأربعة, وهذا الإشكال: هو أن هناك مسائل تخلو من الأدلة في الكتب الفقهية !!.

وهذا الاشكال ناشئ من عدم التصور الصحيح لمعنى الدليل عند الفقهاء والأصوليين.!

فيقال لهم: الدليل يطلق على ما يوصل إلى المطلوب, وبالتالي: فإن الأدلة كثيرة جداً, وكما هو معلوم فإن الأدلة تنقسم إلى قسمين: أدلة متفق عليها وهي الأربعة الكتاب والسنة والقياس والإجماع, وأدله مختلف فيها وهي أنواع كثيرة: منها الاستحسان وعمل أهل المدينة وسدد الذرائع وقول الصحابي والحديث الضعيف وشرع من قبلنا وما إلى ذلك من هذه الأنواع.

وتفصيل هذه الأدلة في كتب الأصول, وبناء على هذا الفهم لمعنى الدليل فأقول وبشكل قاطع أنه لا يمكن وجود أي مسألة في كتب الفقه دون دليل ..

وبناء على ما سبق فقد تبين بما لاشك فيه أن القول بضرورة كون الفقيه محدثاً ليصل إلى التصحيح والتضعيف بنفسه أنه كلام مجانب للصواب, وكذلك القول بأن هناك مسائل لا دليل عليها في كتب الفقه فهو كلام مجانب للصواب.

وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتبعين للكتاب والسنة ولسنن أهل العلم لا المبتدعين والمناوئين لهم, وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. )) باحث دكتوراه في جامعة الإمام بقسم الفقه بالرياض, ومهتم بالمجال التعليمي وتطويره, ومدرب معتمد.
  2. )) قلت أغلب بالنظر إلى تقسيم المسلمين إلى أهل سنة وأهل بدعة, كالفرق البدعية التي لها فقهها المختص بها كالزيدية والإباضية والشيعة الإمامية, وإلا فإن جميع أهل السنة والجماعة هم يتعبدون الله تعالى باتباع أحد المذاهب الأربعة, بل حكي الإجماع على أن الحق لا يخرج عن المذاهب الأربعة قال النفراوي -رحمه الله تعالى-:(وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من الأئمة الأربع: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل – رضي الله عنهم – وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم، وإنما حرم تقليد غير هؤلاء الأربعة من المجتهدين، مع أن الجميع على هدى لعدم حفظ مذاهبهم لموت أصحابهم وعدم تدوينها) ينظر: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 356), وإن كان هناك من يخالف في ثبوت هذا الإجماع كابن تيمية ويقول أن غالب الحق, لا يخرج عن المذاهب الأربعة, قال شيخ الإسلام:(وأما قول القائل: لا أتقيد بأحد هؤلاء الأئمة الأربعة. إن أراد أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين فقد أحسن؛ بل هو الصواب من القولين. وإن أراد: أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها فهو مخطئ في الغالب قطعا؛ إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة), ينظر: المستدرك على مجموع الفتاوى(2/ 250) وبناء عليه فلاشك أن الأسلم والأحوط هو عدم الخروج عن المذاهب الأربعة.
  3. )) قال عنه الإمام الذهبي:(الإمام، شيخ الإسلام، شيخ المقرئين والمحدثين) ينظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (6/ 226)
  4. )) ينظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 163) وللاستزادة انظر نفس المصدر.
  5. )) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 204).