هلاك محل البيع: حالاته والأحكام المترتبة عنه
يتناول هذا المقال أكبر صور التغيّر التي يمكن أن تحدث في محل عقد البيع وأشدها تأثيراً فيه، وهي…
يتناول هذا المقال أكبر صور التغيّر التي يمكن أن تحدث في محل عقد البيع وأشدها تأثيراً فيه، وهي هلاكه أو فواته وتلفه، سواء كان هذا الهلاك قبل القبض أو بعده، ويمكن إجمال هذه الحالات فيما يأتي:
أولا- هلاك محل البيع قبل القبض:
قد يتعرض محل العقد للهلاك الكلي قبل القبض ويفوت مقصود المشتري منه، فما تأثير هذا الهَلاك الكلي على العقد؟ ومن يتحمّل ضمان المبيع الهالك؟
إنّ الحكم الشرعي لهذا الهلاك الكلي مبنيٌّ على النظر في من كان سبباً في وحدوث هذا الهلاك، وهو ما يظهر في الحالات الأربعة الآتية:
الحالة الأولى: هلاك المحل قبل القبض بسبب البائع:
قد ينفرد البائع بالسلعة بعد أن يتم التعاقد عليها مع المشتري، فيحدث فيها تلفاً، ويفوّت مقصود المشتري منها، كأن يشتري شخصٌ شاةً للأضحية ويؤخر قبضها إلى ليلة العيد، فيقوم البائع ببيعها أو بذبحها أو قتلها ونحو ذلك، فما حُكم العقد في هذه الصورة؟ ومن يضمن الخسارة الحادثة؟
اختلف الفقهاء في هذه الحالة على رأيين هما:
الرأي الأول: أنّ العقد يبطل بهذا التغيّر ويسقط الثمن عن المشتري؛ بسبب فوات محل العقد وانعدام قدرة البائع على تسليمه، وهو رأي الحنفية.
الرأي الثاني: أنّ العقد لا يبطل بهذا التغيّر، ويعطى الخيار للمشتري بين فسخ العقد واسترداد الثمن، وبين إمضائه والرجوع على البائع بقيمة المبيع إن كان قيمياً، أومثله إن كان مثلياً، وهو رأي المالكية والشافعية والحنابلة، ويعللون ذلك بأن العقد قد وقع صحيحاً فتترتب عليه آثاره، وأنه لما كان بالإمكان التعويض عن التلف بالقيمة أو المثل، فلا حاجة للفسخ ابتداءً.
الحالة الثانية: هلاك المحل قبل القبض بسبب المشتري:
اتفق الفقهاء على أن العقد لا ينفسخ إذا تسبب المشتري بإتلاف المبيع كلياً قبل قبضه من البائع، حيث يُعد المشتري بهذا التصرف قابضاً للمبيع، ويلزمه دفع الثمن كاملاً، وذلك كمن اشترى جهاز هاتف نقال، وقبل قبضه له وإنقاده الثمن للبائع أخذ يتفقد مواصفاته ونوعيته، فوقع من يده وتحطم، فإنه يضمن هذا المبيع، ويُلزم بدفع ثمنه، ويعتبر قابضاً له، ولعلّ السبب في اعتبار المشتري قابضاً للمبيع بإحداثه هذا التغيّر؛ هو مراعاة جانب البائع بعدم تحميله خسارةً لا يد له بها.
الحالة الثالثة: هلاك المحل قبل القبض بسبب آفة سماويةٍ:
قد تؤثر التغيّرات المناخية والظروف الكونية الخارجة عن حدود الإرادة الإنسانية، كالكوارث الجوية، والزلازل، والأوبئة والأمراض في محل العقد فتهلكه بالكلية، كمن اشترى أقفاصاً من الطيور الداجنة وقبل قبضه لها اكتُشـِف أنّ بعضها مصاب بوباء الأنفلونزا، فأمرت الجهات المعنية بإتلاف جميع هذه الطيور المشتراة خشية انتقال الوباء الخطير إلى طيور أخرى وإلى الإنسان، وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين هما:
القول الأول: أنّ التلف الكلي للمبيع قبل القبض بآفةٍ سماويةٍ يَفسخ العقد ويُسقط الثمن عن المشتري؛ لفوات محله وانعدامه، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية ، وهو مذهب المالكية والحنابلة في كل مبيع فيه حق توفية وإقباض.
القول الثاني: أنّ التلف الكلي للمبيع قبل القبض لا يفسخ العقد، ويلزم المشتري تحمل الضمان ورد الثمن؛ لأن مجرد انعقاد العقد صحيحاً يكفي لانتقال الضمان إليه، وهو مذهب الظاهرية، وأيضاً هو مذهب المالكية والحنابلة في كل مبيعٍ ليس فيه حق توفية وإقباض للمبيع.
الحالة الرابعة: هلاك المحل قبل القبض بسبب طرفٍ أجنبيٍ:
قد يتعرض المبيع للتلف الكلي بفعل شخصٍ أجنبي عن العقد، بعد ما يتم التعاقد على البيع وقبل حصول القبض، كأن يشتري شخصٌ جهازاً كهربائياً فيعمد شخصٌ أجنبي إلى إتلافه بإلقائه في الماء أو تحطيمه ونحو ذلك، فما الحكم حينئذ؟
اتفق الفقهاء على عدم انفساخ العقد بسبب هذا الهلاك، كما اتفقوا على أن ضمان المبيع بالمثل أو القيمة يكون على الأجنبي المتسبب بالهلاك؛ لأنه أتلف مالاً للغير بغير إذنه، لكنهم يختلفون في آثار هذا التلف على العاقدين، ولهم في ذلك رأيان هما:
الرأي الأول: أن المشتري مخيّرٌ بين أمرين اثنين: فإما أن يفسخ البيع ويسترد الثمن، وعندها يتولى البائع مطالبة المتسبب الأجنبي بالضمان، وإما أن يمضي البيع ويطالب المتسبب الأجنبي برد قيمة المبيع الهالك، ويجب أن يكون التعويض عن التلف مساوياً لقيمة المبيع الهالك، فإن زاد عن قيمته لا يجوز للمشتري أخذه؛ لأنه ربحٌ لم يضمنه، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
الرأي الثاني: أن المشتري لا يعطى الخيار بل يُلزم برد الثمن كاملا، ثم يرجع على المتلف بقيمة المبيع إن كان قيميا، أو مثله إن كان مثليا، وهو مذهب المالكية.
والملاحظ أنّ هذين الرأيين يهدفان إلى رفع الضرر الواقع على المشتري، سواءً بإعطاء الخيار، أو التعويض عن المبيع، لكن رأي الجمهور يبدو راجحاً؛ لأنه أرفق بالمشتري الذي قد يثقل عليه أن يطالب الطرف الأجنبي بالتعويض، ويلاحقه بدل البائع الذي تقع مسؤولية ضمان المبيع عليه ابتداءً.
ثانيا- هلاك محل البيع بعد القبض:
قد يحدث أن يهلك المبيع كلياًّ بعد قبض المشتري له ونقده البائعَ ثمنَه، والبحث في أثر هذا الهلاك، ومدى تأثيره على استقرار العقد يكون وفق الحالات الأربعة الآتية:
الحالة الأولى: هلاك المحل بعد القبض بسبب البائع:
اختلف الفقهاء في حالة تعدي البائع على المبيع بعد القبض، وإهلاكه إهلاكاً كلياً على رأيين هما:
الرأي الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن البيع لا ينفسخ لانعقاده صحيحاً، وإنما يطالَب البائع بالتعويض عن قيمة المبيع التالف، باعتباره صار أجنبياً عن العقد بمجرد إقباضه محل العقد للمشتري.
الرأي الثاني: وذهب الحنفية إلى التفريق بين حالتين: فإذا كان قد قبضه بإذن البائع، ثم أتلفه هذا الأخير، فإنهم يوافقون الجمهور في عدم فسخ البيع، وفي تضمين البائع قيمة ما أتلفه، أما إذا كان المشتري قد قبضه بغير إذنٍ من البائع، ثم أتلفه هذا الأخير، فإنّ البائع يعدّ مسترداً للمبيع، فيبطل البيع ويسقط الثمن عن المشتري.
الحالة الثانية: هلاك المحل بعد القبض بسبب المشتري:
اتفق الفقهاء على أنّ المشتري يتصرف في ملكه الخاص إذا أتلف المبيع بعد قبضه له، وعليه تحمّل نتائج تصرفاته، فيُلزَم مثلاً بدفع الثمن للبائع إن لم يكن قد دفعه، وليس له فسخ العقد أو الرجوع عن المبيع، ومثال ذلك: من اشترى ثوباً فأحرقه، يكون ضمانه عليه.
الحالة الثالثة: هلاك المحل بعد القبض بسبب آفةٍ سماويةٍ:
قد يتلف المبيع في يد المشتري بسبب آفةٍ سماويةٍ، كمن اشترى أكياساً من الدقيق وقبضها، فتسبب هطول المطر الغزير بإتلافها كلياً، فما الحكم حينئذ؟
اتفق الفقهاء على أنّ هذا الهلاك لا يرجع على أصل العقد بالفسخ أو البطلان؛ لاستقرار العقد في ذمة المشتري، فهو ملزَمٌ بناءً على ذلك بتسليم الثمن إن لم يكن قد سلمه للبائع، وبتحمّل الخسارة الحادثة في ملكه، وليس له شيءٌ عند البائع؛ لأن علاقة البائع قد انقطعت عن المبيع بعد إقباضه للمشتري.
الحالة الرابعة: هلاك المحل بعد القبض بسبب طرفٍ أجنبيٍ:
اتفق الفقهاء على أنّ العقد لا ينفسخ إذا تسبب شخصٌ أجنبيٌ بهلاك المحل بعد قبض المشتري له، وأنّ هذا الأجنبي المتسبب يضمن قيمة المبيع؛ لأنه أتلف ملكاً للغير دون إذنٍ، كما اتفقوا على أنّ هذا الأجنبي لو عوَّض المشتري عن المبيع التالف بأكثر من قيمته، فإنّ هذه الزيادة تطيب للمشتري: لأنها ربح ما قد ضمن.
أ.د. مراد بلعباس
أستاذ الفقه المقارن
نائب العميد المكلف بما بعد التدرج والبحث العلمي والعلاقات الخارجية
كلية العلوم الإسلامية
جامعة الجزائر1