|

إشكالية الاصطلاح الأصولي

أحمد الشافعي  (أحمد ناجي محمود) باحث في الفقه وأصوله الجولة الأولى: حقيقة المصطلح الأصولي: المصطلح لأي صناعة؛ بانيها،…

أحمد الشافعي  (أحمد ناجي محمود)

باحث في الفقه وأصوله

الجولة الأولى: حقيقة المصطلح الأصولي:

المصطلح لأي صناعة؛ بانيها، وواصفها، ومحررها، ووسيلتها، وناقلها، وجامع الناس على دلالاتها، وأداة تطويرها؛ فإن من يستولي على مقاليد صناعة المصطلح يتقدم ولا شكّ صفوف أهل الفن، فالمصطلح هو اختصار لمضمون واسع، ولعلم كبير، ومساحة معرفية ممتدة. من هنا تأتي أهميته.

المسألة الأولى: تعريف المصطلح الأصولي:

أولاً: التعريف اللغوي: المصطلح في اللغة: هو: «اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص». على ما عرَفه به الزَّبِيدي. واصطلح القوم على الأمر: تعارفوا عليه واتّفقوا. ([1])

والأصولي في اللغة: المنسوب إلى الأصول.

وعليه؛ فيمكن تعريف المصطلح الأصولي لغةً بأنه: «اتفاق أهل الصنعة الأصولية على لفظ مخصوص لمعنىً مخصوص».([2])

ثانيًا: تعريفه اصطلاحًا: أكثر استخداماته قديمًا جاءت تحت راية لفظ «الحَدّ»، أو «التعريف»، هذا قبل الزمن المعاصر.

وقد عرفه الجُرجاني بأنه: «إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر، لمناسبة بينهما».

وقيل هو: «اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى».([3]) 

وأما الحدَّ كما دُوّن في التراث الأصولي: فهو: «القول الدال على ماهية الشيء»، أو «اللفظ الجامع المانع». وفي تعريفه مناقشات.([4])

وأصل «الحَدّ» لغة: المنع، والحجز بين شيئين، وتأديب المذنب، والنهاية التي ينتهي إليها تمام المعني، ومنتهاه.

  واصطلاحًا: افترق الأصوليون في تعريف «الحد» إلى فريقين:

الأول: لم يعرفه؛ لأنه يستلزم الدور.

والثاني: عرَّفه؛ وهؤلاء اختلفوا في تقسيمه إلى أقوال كثيرة، منها: اللفظي، والرسمي، والحقيقي.

وعرف الباقلاني الحدَ في التقريب(ص199) بأنه: «القول الجامع المانع، المفسر لاسم المحدود، وصفته، على وجه يحصره على معناه، فلا يدخل فيه ما ليس منه، ويمنع أن يخرج منه ما هو منه»، وقال: «فهذا هو الحد الفلسفي الكلمي الفقهي الذي يُضرب للفصل بين المحدود وبين ما ليس منه»؛ كقولنا: الإنسان «حيوان ناطق». ولو جمع ولم يمنع، كـ «الإنسان حيوان»، أو منع ولم يجمع كـ «الإنسان رجل»، لم يكن حدًّا صحيحًا للإنسان. ([5])

وثمرة الحدِّ: التمييز بين المحدود وغيره، حتى يستبين مجسدًا للمتفاعل معه من قارئ أو باحث، وهذا مذهب الأصوليين، وهو قول الأشعرية والمعتزلة وغيرهم ممن صنف في هذا الباب من أتباع الأئمة الأربعة، بل أكثرهم لا يجوز الحد إلا بما يميز المحدود، لكنه لم يُهتد إلى ما صار إليه الأئمة الكلام في هذا المقام، فصار الناس يعظِّمون أمر الحدود ويغالون فيها.

وأما المناطقة: فقالوا إن فائدة الحد: التصوير، وبنوا على ذلك أمورًا ليس هذا محلها.([6])

قال إمام الحرمين: «القصد من التحديد في اصطلاح المتكلمين: الفرق بخاصة الشيء وحقيقته التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره». ([7])

وبعيدًا عن التطويل فإن الباحث يرى أن غاية المقصود من المصطلح الأصولي، أنه:

«لفظٌ وجيزٌ، محيطٌ، دالٌ، على حقيقةِ معنىً خاصٍّ مقصودٍ دون غيره، في الدرس الأصولي». ([8])

فكأن الاصطلاح هو الوسيلة، والحدُّ هو الغاية منه، ونحن الآن نُطلق على الحدود كلمة الاصطلاحات في غالب استعمالاتنا.

وبالجملة؛ فإن المقصود منه: التعريف بالشيء المحدود تعريفًا يجعله حاضرًا مميزًا عن غيره في ذهن المتلقي، مدركًا المقصود منه على وجه صحيح وتام، ومادتها: ألفاظ عُرفية بين الأصوليين عرفًا خاصًّا.

الاصطلاح والوضع:

ويختلف الاصطلاح عن الوضع؛ في أن الثاني يقتصر على مجرد «وضع لفظ بإزاء معنى»، إذا ذكر اللفظ استحضر الشخص المعنى الذي بإزائه، كما تسمي ابنك: «زيدًا»، فكلما أطلقت واستعملت اسم «زيد» استحضرت ابنك المخصوص بهذا الاسم. هذا هو الوضع اللّغوِيّ.

وأما الشرعي فهو: «وضع لفظ بإزاء معنى شرعي»؛ كإطلاق لفظ الصلاة على الحركات المخصوصة.

وثمة وضع عرفي، كالبيع والرهان، وغيرهما.

والوضع اللّغوِيّ أعم كما ترى من «الاصطلاح»، فاللفظ في الوضع اللّغوِيّ يفهمه المختص وغيره غالبًا مثل «الدعاء»، وكذلك بعض الألفاظ الوضع الشرعي كلفظ «الصلاة»، أما «الاصطلاح» فيكون له دلالة أضيق، وربما تختلف عن الوضع الشرعي تمامًا، وإذا تطابقا لم يحتج الأصولي إلى نحت جديد، واكتفى بالشرعي، أو اللّغوِيّ. ([9])

التعريف الشرعي والاصطلاحي:

جاءت الشريعة الإسلامية بتعريفات واضحة واصطلاحات استعملتها في مادتها التشريعية، هذه التعريفات هي التي يصح علميًا أن يطلق عليها «التعريف شرعًا»، وذلك كلفظ «الحج»، فإن تعريفها هو تعريف شرعي لا اصطلاحي.

أما ما نحته العلماء ووضعوه لاحقًا، فإنما هو «التعريف اصطلاحًا»، ولعلك الآن تدرك أن كثيرين من الباحثين يخلطون بين ما له تعريف شرعي وما له تعريف اصطلاحي.

التعارض بين المصطلحات:

ماذا إن تعارض اللّغوِيّ والشرعي والاصطلاحي؟

يقدم الشرعي لأنه الأصل والجميع مخاطب به وبدلالته، فالاصطلاحي، فاللغوي، قال ابن تيمية: «والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف معنى الأول ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة. وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لهم فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم، ثم يتأولون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه.»([10]).

وتدور نشأة المصطلح في الصناعة الأصولية على نوعين:

الأول: الإنشاء: وهو اتفاق الأصوليين على مصطلح معين للدلالة على مُسَمّىً خاص، كأغلب الاصطلاحات، مثل: والإجماع، والعلة، والظاهر، والنص.

الثاني: النقل: بنقل معنى لغوي إلى معنى خاص بالدرس الأصولي، كالأمر والنهي.

وأما الاصطلاح نفسه فإن له نوعين:

الأول: الاصطلاح الوضعي: وهو اصطلاح وضعه الأصوليون.

الثاني: الاصطلاح الشرعي: الذي وضعه الشَّرع، كالزكاة والصلاة، فإن فعل العلماء فيه هو إخراجه عن المعنى اللغوي إلى الحقيقة الشرعية.

التعريف المختار: وبعيدًا عن التطويل فإني أرى أن غاية المقصود من المصطلح الأصولي، أنه:

«لفظٌ وجيزٌ محيطٌ دالٌ على حقيقةِ معنىً خاصٍّ مقصودٍ دون غيره، في الدرس الأصولي».([11])

الجولة الثانية: شروط المصطلح الأصولي:

ويحسُن بنا هنا أن نورد شروط قبول المصطلح العلمي في الصناعة الأصولية إجمالاً:([12])

  1. الجماعية: يجب أن يتواضع عليه علماء الأصول دون غيرهم، ويجب أن يكونوا جماعة لا شخص أو اثنان، فهو عمل جماعي، وإلا صار مصطلحًا خاصًّا به، أو بهما، فيصير «مصطلح الشخص» لا مصطلح «الجماعة العلمية». وفي كل يكون الواضع من أهل الدراية بالوضع.
  2. النقل والمناسبة: يجب نقل اللفظ عن معنىً لغويٍّ، وإلى معنىً جديدٍ، لوجود مناسبة بينهما.
  3. الاشتهار والقبول: يجب اشتهار هذا المصطلح عند أهل الصنعة، أو طائفة منهم: كالمتكلمين، أو المقاصديين، أو الشافعية أو الحنابلة، إلخ، وهو ما يحقق القبول العام.
  4. التوحيد والاتفاق: يجب أن يكون المصطلح واحدًا في دلالته على معناه بين أهله، جميعًا أو طائفة معقولة منهم، وأن يكون واحدًا في دلالته على مفهوم أصوليٍّ واحد.

وهناك شروط للمصطلح نفسه، أهمها مما يناسب المقام:

  1. السلامة اللغوية: أن يكون مصاغًا بما يدل على معناه بطريقة سليمة وبكلمات دقيقة موجزة وواضحة.
  2. الدقة العلمية: فلا يخل بالمعنى المحدود بطريقة تخرجه عن صحته العلمية وفقًا لآراء الجماعة العلمية الأصولية، فالإحاطة بالمعنى، والاقتصار عليه مهارة علمية وشرط مهم. ويدخل في الدقة العلمية عدم التعريف بمجاز.
  3. الحيوية والثبات: فهناك ما يتم تداوله وتدويره بين العلماء فيصير حيًّا، وهناك ما يُهمل، ويستبدل.
  4. الإحاطة والحصر: أو الجمع والمنع، أو الانعكاس والاطِّراد، فقد اتفق أهل الصناعة على أن الحدَّ أو المصطلح يجب أن يكون محيطًا لكل المفهوم والمعنى المقصود، قاصرًا عليه لا يدخل غيره فيه.

المصطلحات في التاريخ التشريعي:

جاءت الشريعة ببعض الاصطلاحات كالصلاة والحج والزكاة، والكفر والنفاق والإيمان، لكن لعل مصطلحي: «الاجتهاد» و «القياس» من أوائل ما وضع من اصطلاحات أصولية، ربما لا يتبين لنا بالضبط أيهما تبلور أولاً، وإن كنت أميل إلى تبني افتراض ظهور مصطلح «الاجتهاد» أولاً، وحديث معاذ ليس بالبعيد، واقتصر معناه عن البحث عن الحكم الشرعي فيما لم يرد فيه نص.

ثم انطلقت آلة صك الاصطلاحات مع تدوين العلوم وقفزها خطوات للإمام، ولعل كتاب «الرسالة» حاز شيئًا عظيمًا من ذلك.

مثال تطبيقي: مصطلح «القياس»:

فمن حيث توفر شروط القبول:

فإن معنى القياس في الجملة له اعتراف جماعي من الجماعة العلمية الأصولية، وقد نقل عن معنى التقدير لغةً، وقد اشتهر هذا المصطلح بين الأصوليين ولقي القبول بينهم، ومدلوله العام محل اتفاق بينهم، فهو يدول حول: «إلحاق فرع بأصل في حكمه بجامع».([13])

وأما من حيث توفر شروط للمصطلح نفسه، في «القياس»:

فإن في مصطلح القياس سلامة لغوية، ودقة علمية، وهو حي يُتداول بين الفقهاء إلى اليوم، وهو جامع مانع في أغلب تعريفاته.


([1]) في تاج العروس(6/550).

[2])) في مقدمة «المخصص» لابن سيده فائدة رائقة في مواضعة اللغة يمكن الرجوع إليها، المحقق: خليل إبراهيم، القاهرة: دار إحياء التراث العربي: ط1، 1996م، (1/33). شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان بن سعيد الحميرى، المحقق: حسين العمري وآخرون، لبنان: دار الفكر المعاصر، ودمشق: دار الفكر، ط1، 1999م، (6/ 3816).  المحكم والمحيط الأعظم ا بن سيده، المحقق: عبد الحميد هنداوي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 2000م، (3/152). أساس البلاغة(1/ 554). مختار الصحاح(178). معجم اللغة العربية المعاصرة (2/1311).

[3])) التعريفات للجرجاني(ص 28).

[4])) الحدود في الأصول، للباجي(ص 95). الحدود في الأصول، لأبي الوليد الباجي، المحقق: محمد حسن إسماعيل، لبنان: دار الكتب العلمية، ط1، 2003 م، (ص 95). الكافية في الجدل لإمام الحرمين(ص 2). معجم مقاليد العلوم، للسيوطي، المحقق: محمد إبراهيم عبادة، القاهرة: مكتبة الآداب، ط1، 2004 م (ص34-و 37). والفروق اللغوية، للعسكري(178).

       وأقسام المعرف أربعة، وقيل خمسة؛ لأنه إما حدُّ وإما رسم، وكل منهما: إما تام أو ناقص: الحد التام: تعريف الماهية بجميع أجزائها الداخلة. ويتركب من الجنس والفصل القريبين كتعريف الإنسان بـ «الحيوان الناطق». الحد الناقص: تعريفها ببعض أجزائها اللازمة. ويكون بالفصل القريب وحده؛ كتعريف الإنسان بـ «الناطق»، أو به وبالجنس البعيد؛ كتعريفه بـ «الجسم الناطق». الرسم التام: يتركب من من جنس الشيء القريب، ثم يذكر الخاصة الخارجة عن الماهية، وتكون لازمة له كتعريف الإنسان بـ «الحيوان الناطق». الرسم الناقص: تعريفها بأمور خارجة عنها؛ بالجنس البعيد والخاصة كتعريف الإنسان بـ «جسم ضاحك»، أو بالخاصة وحدها؛ كتعريفه بأنه «ضاحك» وأما الخامس: فالحد اللفظي: وهو شرح المحدود بلفظ أظهر منه وأوضح وأشهر للسامع منه؛ كما تقول: الغضنفر: هو «الأسد» وخالف الزركشي في البحر المحيط(1/249) وجعله قسمين فقط: الحقيقي والرسمي، ونقل عن بعضهم أنه واحد وهو: الحقيقي. وانظر: جمهرة اللغة(1/24)، الصحاح(ص167)، الحدود الأنيقة للأنصاري(ص65)، المستصفى للغزالي(1/19)، الإحكام للآمدي(1/29)، شرح تنقيح الفصول للقرافي(1/7).. الواضح لابن عقيل(1/14). والشامل في حدود وتعريفات مصطلحات أصول الفقه، لعبد الكريم النملة (1/ 43-45).

([5]) انظر أقوال الغزالي في المستصفى، والقرافي في شرح التنقيح(ص7).

[6])) البحر المحيط، للزركشي(1/75).

([7]) البحر المحيط، للزركشي(1/133).

[8])) اقتصر الباحث على ما يوضح المقصود في المعنيين اللغوي والاصطلاحي، ويمكن الاستفادة من التوسع في تعريف المصطلح في: في مسار الدرس الأصولي والفقهي، بحوث تاريخية ونظرات منهجية، مسعود بن موسى فلوسي، بيروت: دار المقتبس، 2017م، (69 وما بعدها). تجديد المصطلح الأصولي، أماني محمود عبد الصمد، دراسة مقدمة إلى مؤتمر العلمي الأول: تجديد الخطاب الديني بين دقة المصطلح وتصحيح المفاهيم، كلية الدراسات الإسلامية، جامعة الأزهر، كتاب المؤتمر(891-898). المصطلح الأصولي لعلي جمعة، مرجع سابق(ص 36).

([9]) انظر: البحر المحيط (2/288)

([10]) مجموع الفتاوى(17/355).

[11])) اقتصرت على ما يوضح المقصود في المعنيين اللغوي والاصطلاحي، وللتوسع في تعريف المصطلح انظر: في مسار الدرس الأصولي والفقهي، بحوث تاريخية ونظرات منهجية، مسعود بن موسى فلوسي، بيروت: دار المقتبس، 2017م، (69 وما بعدها). تجديد المصطلح الأصولي، أماني محمود عبد الصمد، دراسة مقدمة إلى مؤتمر العلمي الأول: تجديد الخطاب الديني بين دقة المصطلح وتصحيح المفاهيم، كلية الدراسات الإسلامية، جامعة الأزهر، كتاب المؤتمر(891-898). المصطلح الأصولي لعلي جمعة، مرجع سابق(ص 36).

[12])) انظر في شروط الحد: محك النظر في المنطق، للغزالي الطوسي، المحقق: أحمد فريد المزيدي، بيروت: دار الكتب العلمية، (ص 265). الشامل في حدود المصطلحات الأصولية، مرجع سابق(1/ 30-43). المصطلح الأصولي لعلي جمعة، مرجع سابق(ص 36).

([13]) البحر المحيط، للزركشي (7/ 83).

2 تعليقات

اترك تعليقاً