|

أحكام بيع الولي من مال اليتيم

أحكام بيع الولي من مال اليتيم د. مراد بلعباس.  لما كان الوليُّ يقوم في مال اليتيم مقام البالغ…

أحكام بيع الولي من مال اليتيم

  • د. مراد بلعباس. 

لما كان الوليُّ يقوم في مال اليتيم مقام البالغ الرشيد في مال نفسه، وكان من أفعال الرشيد أن يتجر بماله وينمّيه ويستثمره، وذلك بمختلف سبل التنمية كالبيع والشراء والمضاربة والإجارة ونحوها، كان من الواجب عليه أن يحتاط لهذا اليتيم كما يحتاط لنفسه أو أكثر، ذلك أنّ الأصل فيمن تصرّف لغيره سواء كان وليًّا أو وكيلاً أو ناظر وقف أو غير ذلك، أن يكون تصرّفه في ذلك تصرّف نظر ومصلحة، خاصّةً وأنّا قد علمنا حرص الشريعة الإسلامية على حفظ الأموال عموماً، وأموال الأيتام المستضعفين خصوصاً، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام:152]؛ وذلك حتى لا يقع الوليّ في كبيرة أكل مال اليتيم وتضييعه وتعريضه للخسران، والتي أمر النبيّ باجتنابها في قوله: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»، قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ»([1]).

من أهمّ تصرّفات الوليّ على اليتيم البيعُ والشراءُ لليتيم من ماله، ومن المهمّ أن نقف عند حدود هذا التصرّف من قبل الوليّ بيعاً وشراءً، حيث تطرق الفقهاء إلى هذا الموضوع من خلال مسائل ثلاثة هي: مسألة شراء الوليّ مال اليتيم لنفسه أو بيع ماله له، ومسألة بيع الوليّ مال اليتيم نسيئةً أو بالعَرَض، ومسألة تضمين الوليّ إذا باع أو اشترى بأنقص من القيمة، وسنقف فيما يأتي على كلّ مسألة من هذه المسائل بما يوضحها ويبيّن حكمها الشرعي بإذن الله تعالى.

المسألة الأولى: شراء الوليّ مال اليتيم لنفسه أو بيع ماله له

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال عدّة، ويمكن إجمالها في رأيين اثنين:

  • الرأي الأول: ويرى أصحابه جواز بيع وشراء الوليّ مال اليتيم لنفسه، وذلك إذا زالت التهمة عنه، بأن يزيد على ثمن المثل في الشراء، وينقص عنه في البيع، وهو مذهب المالكية والحنفية، غير أنّ الحنفية يستثنون من ذلك القاضي ووصيّه فلا يملكون ذلك، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد بشرطين هما: أن يزيد على ثمن مثله في النداء، وأن يتولّى النداءَ غيرُه، وإليه ذهب الإمام ابن حزم بشرط عدم المحاباة في ذلك([2]).

وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي بما يأتي:

  1. ما ورد عن ابن عمر أنّه كان يستقرض من مال اليتيم([3])، ووجه الدلالة أنّ في القرض نوع من التبرّع، وإذا جاز ذلك فيه فهو في عقود المعاوضات من باب أولى.
  • ونوقش بما ذكره الإمام أحمد أنّه إنّما استقرض نظراً لليتيم واحتياطاً، إن أصابه شيءٌ غرمه([4]).
  1. أنّه يجوز للولي بيعه من الأجنبيّ بما لا زيادة فيه متيقّنة كما هو معلوم، فبيعه من نفسه بالزيادة المتيقّنة أولى([5]).
  2. أنّ الغرض من البيع حصول الثمن لا أعيان المشترين، بدليل أنّ الوكيل إذا ابتاع لموكله ولم يسمّه جاز، فإذا ثبت ذلك فمتى حصل الثمن مستوفى فيجب أن يصحّ الشراء كما لو حصل من أجنبيّ([6]).
  3. أنّ الوليّ إذا باع من نفسه بزيادة على ما يباع، عُلم أنّه أراد نفع اليتيم، فنفذ تصرّفه فيه كما لو باعه من أجنبيّ([7]).
  4. أنّ الوليّ مأمور بالقيام بالقسط والتعاون على البرّ، فإذا فعل ما أُمر به فهو محسن، وإذ هو محسنٌ فما على المحسنين من سبيل، ولم يأت قطُّ نصٌّ من قرآن ولا سنّة بالمنع من ابتياعٍ، ممّن ينظر له من نفسه أو يشتري له من نفسه([8]).
  • الرأي الثاني: ويرى أصحابه عدم جواز بيع الوليّ أو شرائه من نفسه لليتيم، وهو مذهب الشافعية، لكنّهم استثنوا الجدّ فقالوا بأنّ له أن يبيع ويشتري، والمعتمد عند الحنابلة([9])، وقد استدلّوا بما يأتي:
  1. ما روي عن النبيّ أنّه قال: «لاَ يَشْتَرِي الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ»([10]).
  • ونوقش هذا الحديث بأنّه لا يثبت عن النبيّ ، وليس هناك من أخرجه من أصحاب الحديث الذين تناولوه.
  1. ما ورد عن ابن مسعود أنّه قال لمن سأله عن مال اليتيم: “لا تشتر شيئاً من ماله، ولا تستقرض شيئاً من ماله”([11]).
  • ونوقش أثر ابن مسعود هذا بأنّه محمول على الاحتياط لمال اليتيم، ولا جزم فيه بالمنع.
  1. أنّ الوليّ متّهم في طلب الحفظ له في بيع ماله من نفسه، فلم يُجعل ذلك إليه([12]).
  • ونوقش بأنّه استدلال بمحلّ النزاع؛ لأنّ الجواز عند من قال به مشروط بعدم التهمة.

الترجيح: الذي يظهر من خلال هذه الأقوال وأدلّتها أنّها ترمي إلى حفظ مال اليتيم، فإذا تعيّن على الوليّ البيع لليتيم والشراء له من نفسه، وانتفت عنه تهمة ظلم اليتيم، جاز له ذلك كما ذكره أصحاب المذهب الأول، والله أعلم.

المسألة الثانية: بيع الوليّ مال اليتيم نسيئةً أو بالعرَض

جمهور أهل العلم على أنّ للوليّ بيعَ مال اليتيم نسيئةً وبالعرَض، لكن اختلفوا في شروط ذلك، فذهب الحنفية إلى جوازه إذا لم يكن الأجل فاحشاً، فإن كان فاحشاً فلا يباع هذا المال به، وألاّ يكون في البيع بالعرض ضرر باليتيم، وذهب المالكية في ظاهر المذهب، والشافعية وبعض الحنابلة إلى جواز البيع إذا كان في ذلك مصلحة، بأن يكون أكثر ثمناً وأنفع، أو لخوفٍ عليه من نهب أو ضياع ونحو ذلك، لكنّ المشهور من مذهب الحنابلة عدم جواز بيعه بالعرَض([13]).

وقد استدلّ جمهور أهل العلم على هذا الجواز بالأدلّة الآتية:

  1. أنّ تصرّف الوليّ في مال يتيمه منوط بالمصلحة، وإذا كان في بيع مال اليتيم نسيئةً أو بالعرض مصلحة، فهو من الإصلاح لماله، وقربانٌ له بالتي هي أحسن، لقوله تعالى: ﴿وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء:127].
  2. أنّ الوليّ يملك الاتجار بمال اليتيم، والبيعُ نسيئةً أو بالعرض لمصلحته هو من عادة التجار وعملهم، فيجوز لذلك([14]).
  3. واحتج الحنفية بأنّ الأجل إذا كان يسيراً فهو ممّا يعفى عنه كالغرر اليسير، أمّا إذا كان طويلاً فلا، كما أنّه لا بدّ من أن يأمن الوليّ الجحود وهلاك الثمن، وذلك لئلاّ يتضرّر اليتيم([15]).

والحقيقة أنّ هذا شرط جميع المذاهب وليس الحنفية وحدهم، إذ تكمن مصلحة اليتيم في ذلك.

  1. أما الشافعية فقد اشترطوا له أن يأخذ على هذا الثمن المؤجل رهناً وفياً به، ولا يجزئ الكفيل عن الرهن، وأن يُشهد على البيع وجوباً، وأن يكون المشتري موسراً ثقةً، وأن يكون الأجل قصيراً عرفاً ([16]).
  2. وأما الحنابلة المجيزون للبيع نسيئةً فيشترطون له أن يحتاط على الثمن برهن أو كفيل موثوق به، واحتج من منعه بالعرض منهم بأنّ البيع عند الإطلاق يتقيّد بالعرف، والعرف هو البيع بالنقد لا بالعرض([17]).

المسألة الثالثة: تضمين الوليّ إذا باع أو اشترى بأنقص من القيمة:

اتفق العلماء على أنّ الوليّ إذا باع أو اشترى لليتيم بغبن فاحش فإنّه يضمن، لأنّ البيع بغبن فاحش ليس من مصلحة اليتيم، والوليّ هنا مفرّط فيضمن ما أدّاه من الزيادة الفاحشة([18]).

لكنّهم اختلفوا فيما إذا كان الغبن يسيراً غير فاحش، كأن يشتري أو يبيع بأكثر أو أقلّ من ثمن المثل قليلاً، وذلك على ثلاثة أقوال:

  • القول الأول: ذهب فقهاء المالكية إلى أنّ الوليّ لا يشتري إلاّ بثمن المثل، ولا يبيع إلاّ بأزيد من الثمن، إلاّ إذا كانت هناك حاجة ماسّة للبيع فيجوز بالثمن، ويضمن إن خالف هذا، ومأخذهم في هذا الاحتياط لمال اليتيم([19]).
  • القول الثاني: وذهب فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنّه إذا باع بأقلّ من ثمن المثل، أو اشترى بأكثر من ثمن المثل، فإن كان ممّا يتغابن به الناس عرفاً فلا يضمن، وإن كان ممّا لا يتغابن به الناس عرفاً ضمن، ومستندهم في هذا أنّ إطلاق البيع ينصرف إلى ثمن المثل، فيضمن إذا نقص في البيع، أو زاد على ثمن المثل في الشراء، ولأنّه لا نظر للصغير فيما لا يتغابن به الناس([20]).
  • القول الثالث: وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنّه إذا اجتهد وتحرّى فلا ضمان عليه، وإن فرّط ضمن، وحجّته في هذا أنّه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه، فكيف يجتمع عليه الأمر والضمان؟ وهذا الضرب هو خطأٌ في القصد والاعتقاد لا في العمل، وأيضاً لأنّ الوليّ مأذونٌ له في البيع والشراء، وما ترتّب على المأذون غير مضمون([21]).

الترجيح: الذي يظهر من خلال هذه الأقوال الثلاثة أنّها ترجع كلّها إلى القول بعدم الضمان على الوليّ إذا لم يفرّط، وإن اختلفت صيغها وعباراتها، وبالتالي يكون ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية من عدم الضمان على الوليّ إذا احتاط في تعاملاته ولم يفرّط هو الأقرب إلى الصواب في المسألة، خاصّة إذا علمنا أنّ الوليّ أمين، والأمين لا ضمان عليه مع عدم التعدّي والتفريط.

والله أعلم

  1. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، رقم: 6465، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، رقم: 272.
  2. انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/154، والزيلعي، تبيين الحقائق، 6/211، والدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 3/299، وابن رشد، بداية المجتهد، 2/361، والمرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 5/246، وابن حزم، المحلّى، 8/324.
  3. أخرجه عبد الرزاق في مصنّفه، رقم: 16480.
  4. انظر: ابن قدامة، المغني، 4/319.
  5. انظر: القاضي عبد الوهاب المالكي، الإشراف على مسائل الخلاف، 2/27.
  6. المرجع نفسه، 2/28.
  7. المرجع نفسه، 2/27.
  8. انظر: ابن حزم، المحلّى، 8/324.
  9. انظر: النووي، روضة الطالبين، 4/188-189، والماوردي، الحاوي في فقه الإمام الشافعي، 6/536، وابن قدامة، المغني، 4/317، وابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/218.
  10. لم أجد من خرّج هذا الحديث من العلماء والمحدثين الذين تناولوه، وغاية ما قاله ابن حجر فيه أنّه لم يجده [انظر: ابن حجر العسقلاني، التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، 3/108]، وقال ابن الملقّن: هذا الحديث غريب لا أعرف من خرّجه بعد البحث الشديد عنه [انظر: ابن الملقّن، البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، 6/677].
  11. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الوصايا، رقم: 12458.
  12. انظر: ابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/219.
  13. انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/153، وابن عابدين، حاشية رد المحتار، 6/708-710، وجماعة علماء الهند، الفتاوى الهندية، 3/176، وابن عبد البر، الكافي في فقع أهل المدينة المالكي، 2/1033، والحطاب، مواهب الجليل، 6/652-653، والدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 3/300، والنووي، روضة الطالبين، 4/188، والرملي، نهاية المحتاج، 4/378، والشربيني، مغني المحتاج، 2/175، وابن قدامة، المغني، 4/317، وابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/219، والبهوتي، شرح منتهى الإرادات، 2/190.
  14. انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/153.
  15. انظر: ابن عابدين، حاشية رد المحتار، 6/708، وجماعة علماء الهند، الفتاوى الهندية، 3/176.
  16. انظر: الشربيني، مغني المحتاج، 2/175، والرملي، نهاية المحتاج، 4/378.
  17. انظر: المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 5/243.
  18. انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/153، وابن عبد البر، الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، 2/1034، والنووي، المجموع شرح المهذب، 13/347، وابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/218-219، وابن تيمية، مجموع الفتاوى، 30/43.
  19. انظر: الحطاب، مواهب الجليل، 6/653، والدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 3/300.
  20. انظر: ابن عابدين، حاشية ردّ المحتار، 6/709، والسرخسي، المبسوط، 24/159، والنووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، 4/188، وابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/219.
  21. انظر: ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، 4/146.

اترك تعليقاً